الجيش الصهيوني الذي لم يعد كما كان

إسلام حامد

باحث وأسير فلسطيني

بقلم:
الأسير/ إسلام حسن حامد





بعد تعقيدات العملية العسكرية الأخيرة للجيش الصهيوني في مخيم جنين يوم الإثنين الماضي الموافق لـ19/06/2023، وكان لا بد لنا من تقديم عدة نقاط مركزية تتعلق بالعملية، وتدور في فلكها وهي:

الأولى: أن الكيان الصهيوني ولِد في ظروف غير طبيعية، وسيبقى كذلك.

فهو ليس امتدادًا طبيعيًا لتحولات اجتماعية أنتجت الدولة، كالتحولات الاجتماعية في الثورة الفرنسية الحديثة التي قادت البلاد إلى الدولة الحديثة.

كما أنه لا يشابه حالة الثورة والانتفاض أمام الاستعمار الأوروبي، كمقاومة الشعب الجزائري الذي شكّل الدولة المستقلة، بل هو نموذج خاص، دولة المستعمرة، المركب الأساسي فيها الجيش، التي بدأت بوجود جماعة ملحقة بالاستعمار، ثم كيان استعماري وظيفي (كما قدمه المسيري)، إلى دولة استعمار مركزية بالمفهوم الأوروبي.

مرافقًا لهذه التكوينات استخدام العنف بكافة أشكاله وعلى رأسها الحرب والقتال، وبعد هذا التشوّه التاريخي الذي مضى عليه 75 عامًا، فإن الكيان الصهيوني ولِد ويعيش الحرب، والمعركة بين المعارك حتى يومنا هذا.

الثانية: الحدث المؤسس

شكلت العملية الروتينية للجيش (كما يرغب في وصفها)، والتعقيدات الحاصلة فيها، ما يمكن وصفه بالحدث المؤسس والعلامة الفارقة في الجيش، فما قبل العملية ليس كما بعدها، وهنا لم يكن ذلك بسبب الارتباك العملياتي في حادثة إنقاذ المدرعة المعطوبة (بانتير – النمر) التي استمرت لقرابة التسع ساعات، بل للمقدمات الخطيرة التي أدت إلى ذلك.

فتحول مخيم جنين إلى نقطة ارتكاز محصنة للمقاتلين فيها، هذا يعني عدم فاعلية الجيش الصهيوني والأجهزة الأمنية المعنية في المساحات العملياتية التي يمارس القتل والدمار فيها؛ كما كان سابقًا، والإعلان بالعنوان العريض، أن مخيم جنين منطقة محررة بقوة السلاح، ومحرمة على الاستعمار الصهيوني وأدواته، في مقاربة إلى حد كبير مع قطاع غزة أو جنوب لبنان.

الثالثة: المقاومة الفلسطينية ليست غبية

الذاكرة القصيرة لدى العقل الأمني الصهيوني في مراجعة عميقة لما حصل، تُنذِرُهُ بالكوارث والمآسي القادمة، فالانسحاب من جنوب لبنان المهين والمؤلم ما زال ذكراه حاضرًا، ويضاف إليه الانسحاب من قطاع غزة تحت ضربات المقاومة عام 2005، وفي فجأة من أمره يكتشف الكيان الصهيوني أن جنوب لبنان تشكل من جديد في مخيم جنين وشمال الضفة الفلسطينية.

عبوات جانبية ناسفة، اشتباكات، كمائن وغيرها، مما يذكّر الكيان بما جرى معه في لبنان، وفي لحظة لما كان هناك قبل الانسحاب عام 2000، عبوات جانبية واقتحام للمواقع، وعمليات عسكرية في طرق الإمداد.

مخيم جنين وشمال الضفة الفلسطينية أنتج ذلك بصورة مصغرة تحاكي ما سبق، فكمية العبوات المستخدمة أعطت درسًا قاسيًا للكيان أن المقاومة الفلسطينية تتطور وتدرك جيدًا الأخطاء التي وقعت فيها، لتأخذها فيها العبر، وتتقدم في مجهودها العسكري.

النتائج هذه لم تولَد بالأمس بل منذ عام ونصف من تراكم الخبرات، وبنفس القدر الإخفاقات الكبيرة التي أعادت تشكيل الوعي الثوري المقاوم، وكيفية إدارة المعركة التحررية.

الرابعة: من كان يصدق

أن العبوة الكبيرة محلية الصنع، والمستخدمة في الكمين الذي استهدف ناقلة الجند المدرعة (بانتير – النمر) وضعت بشكل مهني واحترافي.

ليكون السؤال الأكثر إلحاحًا، حول مدى التقدم في تصنيع العبوات المؤثرة؟

وما هو المستوى الذي وصلت له المقاومة في التخطيط العسكري، الذي أعطى الإمكانية لنصب الكمين بالشكل والفعالية المحددتين؟

ومع أن الإجابة مهمة لجميع التساؤلات المقلقة للمقدر الأمني الصهيوني! إلّا أن القراءة المنتبه ستكون لطبيعة الخطوة القادمة، إن كان هناك مثلًا قرارًا بتنفيذ عملية ميدانية واسعة، والدخول إلى حقل النار في شمال الضفة الفلسطينية فيها، فهل ستكون عبر استخدام ناقلات الجند المجنزرة (الملّالة)؟ مع عدم إغفال التخوفات من أن التطور في تصنيع العبوات لدى المقامة قد يؤثر أيضًا على الآليات المجنزرة حينها سيكون هناك اعتراف صريح بأن مدن الضفة الفلسطينية تحولت إلى قطاع غزة أو جنوب لبنان بشكل من الأشكال.

الخامسة: كيف يُنظر اليوم إلى ماهية وصورة الجيش الصهيوني بعد كمين (البانتير)؟

هنا، وللتذكير يتم تقديم صورة الجيش الروسي، كنموذج للحاصل في المعارك الدائرة في أوكرانيا منذ 16 شهرًا، لاعتبارات عدة، منها حجم الجيش الكبير والتجارب العديدة التي خاض فيها معارك قتالية، والتسليح المتقدم وغير ذلك، ومع كل ما سبق فقد تغير الحال بعد اجتياحه لأوكرانيا، حيث فقد هيبته المعروفة عنه كجيش لدولة عظمى أمام القوات الدفاعية الأوكرانية.

وبنوع من المقارنة فأن الجيش الروسي الذي وقع في المستنقع الأوكراني وحتى اليوم لم يستطع الخروج منه، فإن الجيش الصهيوني الذي تضرر بشكل أساسي في الكمين الأخير، وفي العمق منه، فإنه غير مستعد للمعركة القادمة، وتغيّر خططه العملياتية بعد الحدث الكبير، ويتخذ مسارًا جديدًا، باستخدامه سلاح الجو من طائرات الأباتشي القتالية إلى المسيرات المسلحة لاستهداف المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة، كل هذا وغيره يدلل أن المقاومة الفلسطينية شكلت نوعًا من الردع لقوات الجيش الصهيوني.

فهي التي طوّرت مجهودها الحربي وتنظيمها الميداني الذي قدم لها إمكانية تعقّب القوات الصهيوني وتقدير الموقف الصحيح؛ لتنصب كمينها المحكم وتباغته بحيث لا يستطيع تدارك ما يحصل، وتدير المعركة بعد ذلك بتحكم وضبط للفعل المقاوم الميداني أمام هيجان الجيش الصهيوني واستدعائه، كما أعلن لمئات الجنود من منطقتي نابلس وقلقيلية ومشاركة القوات الخاصة منها، مجلان، الدفدوفان، وسيرت جفعاتي، وكتيبة شكيد، و4 طائرات مروحية قتالية وغيرها، مسيّرات وطائرتي إنقاذ من نوع يسعور وينشوف، بالإضافة إلى القوات الخاصة التي وقعت في الكمين، وسيرت نسنحانيم المرافقة لها، بالإضافة إلى حرس الحدود.

يؤكد على أن الإمكانيات العملياتية للمقاومة الفلسطينية أصبحت تمنع وتردع الجيش من تنفيذ "عملياته بحرية"1 في المناطق، ومنه أيضًا تحويل مناطق واسعة في الضفة إلى تحصينات دفاعية أمام الجيش، كما هو الحال في غزة مثالًا.


وفي تخيل لما قد يكون الوضع قريبًا، ماذا سيفعل الجيش الصهيوني أمام إطلاقات صاروخية من جنوب لبنان باتجاه مساحات واسعة في الكيان الصهيوني، التي قد تصل إلى 3500 صاروخ يوميًا بأنواع مختلفة (دون الحديث عن قطاع غزة والمساندة النارية التي يشكلها في معركة الساحات) بالإضافة إلى ذلك الآلاف من مقاتلي الرضوان المستعدين لاقتحام التجمعات السكانية، في الشمال الفلسطيني وآلاف الفلسطينيين في الداخل المحتل الذين يملكون السلاح، حيث لن يخرجوا للتظاهر السلمي، بل سيستخدمون السلاح في اقتحام التجمعات السكانية اليهودية ويمارسوا واجب الجهاد والمقاومة في كل الاتجاهات.

أمام كل ما سبق فإن الجيش الصهيوني أعجز من أن يجد حلول جذرية لكل التحديات التي يواجهها وفي كافة الجبهات، وعليه ماذا سيفعل بعد الهزيمة الأخيرة في مخيم جنين؟.

الخاتمة:

يمكن الوصول إلى عدة استنتاجات سيعمل الجيش عليها، تبدأ بالنظر بشكل مختلف للمناطق التي تصدر المقاومة في الأشهر الأخيرة، حيث سيقوم بدراسة المعيقات الجديدة في الميدان كما هو المعروف عنه، ومن ثم يعمل على تنفيذ عمليات استنزاف متواصلة للمقاومة، من ضمنها استهدافات لمواقع المقاومة جوًا، وإدخاله قوات عسكرية للمناطق بفعاليات متوافقة مع نظريته الأمنية قص العشب.

حيث يعمل الجيش والقوات الخاصة على تنفيذ عمليات عسكرية كل ليلة في المدن والمخيمات الفلسطينية دون توقف، هذا في الإطار العملياتي، لكن في واقع الحال فإن التقديرات2 التي قدمتها قيادة لواء المركز في الجيش الصهيوني، وأن أغلب عمليات المقاومة تخرج من مخيمات جنين، بلاطة، ونور شمس، ومن البلدة القديمة في نابلس، ومناطق أخرى أقل خطورة، لكنها حساسة كمخيم عقبة جبر في الجنوب من أريحا، ومواقع الاحتكاك على مساحة الضفة الفلسطينية، خلاف ذلك باقي الدن هادئة ولم تدخل في العمل المقاوم، كمدينة الخليل حتى الآن.

وبحسب تلك التقديرات فإن المستقبل لا يبشر بالخبر، فالسلطة في رام الله تفقد سيطرتها على الأرض في مناطق تواجدها، وتعاظم القناعات لدى الشارع الفلسطيني أما السلطة أصبحت جهازًا أمنيًا وظيفيًا خالصًا يعمل لصالح العدو الصهيوني، كما أن وجود أبو مازن على رأس السلطة حتى الآن يوفر الوقت لتدارك الكيان الصهيوني.

الخلل المؤكد حصوله بعد رحيل أبو مازن كتحدي سيطرة حماس على الضفة في اليوم التالي من رحيله.

وينتهي التقدير أن هناك منطقتان تربكان الجيش الصهيوني:

الأولى: إيران ويدها الطويلة في المنطقة حزب الله المنتشر على الحدود الشمالية

الثانية: الحالة المقاومة في الضفة الفلسطينية، أما قطاع غزة فلها قصة أخرى مختلفة وتنتظر دورها.

وعليه فإن الجيش الصهيوني لم يعد كما كان!!

1/ المصطلح الأكثر لطفًا في وصف الاستعمار والاستبعاد الصهيوني للآخر.

2/ مقال لـ يوسي يوشع، يجب عدم السماح للضفة أن تتحول إلى غزة، يديعوت أحرنوت 20/06/2023


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023