حضارات
نعيم أشرف مشتهى
تشهد الحرب الدائرة في غزة منعطفاتٍ دراماتيكية خطيرة حيث يمضي الاحتلال "الاسرائيلي" في خطة التهجير بدعمٍ أمريكيٍ وغربيٍ متكامل يرافقه الدعم العسكري واللوجستي الذي لم يتوقف منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، فقد وقع إعلان من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو لاستخدام صلاحيات الطوارئ لتسريع تسليم مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة تقريبية 4 مليارات دولار (وفق رويترز).
ورغم بعض التصريحات السياسية الغربية المناهضة لبعض الأفعال "الاسرائيلية" إلا أنها لم تغير جوهر الواقع المُعاش، حيث تتناقض المواقف العلنية مع المصالح الاستراتيجية والصفقات التجارية للاسلحة بينها وبين "اسرائيل"، فيما أوقفت المانيا شحنات الأسلحة ل "اسرائيل" نتيجة الضغوطات الداخلية المتمثلة بانتقادات واسعة حول تراخيص منحت لشركات أسلحة منذ أكتوبر ٢٠٢٣ (وفق رويترز).
في الميدان، أعادت "اسرائيل" تكرار تكتيك المناشير الجوية المحذرة للشعب الفلسطيني في القطاع بالبقاء في بعض المناطق لتشكيل حالة ضغط من النزوح الداخلي المتكرر المؤدي في نهاية المطاف للنزوح جنوب وادي غزة، في خطوةٍ تعيد الحرب إلى نقطة بدايتها، ما يعني أننا أمام منعطفٍ خطير يمكن أن يحوّل الحرب إلى طويلة الأمد خاصةً مع سعي رئيس الحكومة "الاسرائيلية" بنيامين نتنياهو لاستخدام ذلك كورقة للبقاء على سدّة الحكم وصناعة صورة "الزعيم الوطني" الذي يحقق انجازًا تاريخيًا ل "دولته".
استراتيجيات الاحتلال، انهاك ونزع السلاح:
➢ انهاك المقاومة الفلسطينية حتى إيصالها لنقطة اللاعودة في الحرب بحيث تستنفذ كل قواها اللوجستية ما يجعلها غير قادرة على الاستمرار في المواجهة، وجرّها لخطر توقيع صفقة غير مشرّفة تؤدي لتدمير الروح المعنوية الدافعة لقتال الاحتلال، الأمر الذي يدعونا للنقطة التالية.
➢ نزع سلاح المقاومة عبر أي اتفاق محتمل، فعلى الرغم من تراجع القدرات العسكرية مقارنةً ببداية الحرب إلا أن ما تملكه المقاومة حاليًا يمثل بقاء فكرة قتال الاحتلال، ما يمكن أن يدمر تلك الفكرة بتوقيع اتفاق يقضي بنزع السلاح، ليعيد للأذهان ما حدث من خروج لمنظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام ١٩٨٢ وبدء المفاوضات السرية المُفضية لاتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ "الأرض مقابل السلام".
واليوم يحاول الاحتلال إعادة انتاج ذات المسار ولكن دون أي تمثيل للشعب الفلسطيني وتدمير أي مقدرات تخصه بل توزيعه على عدة بلدان تستوعبه بشكلٍ يختلف عن الاستيعاب الطبيعي بمسمى "لاجئ"، حيث يمكن استنباط ذلك من خلال سعي الاحتلال لإنهاء دور "الاونروا" المختصة بدعم الشعب الفلسطيني في بعض الدول مثل رومانيا والنمسا واليابان.
تكتيكات المقاومة:
1. قلب الطاولة:
في المقابل، تنتهج المقاومة الفلسطينية تكتيكات عسكرية تهدف لاستنزاف قوات الاحتلال وتحويل المعارك الميدانية لصالحها دون خسائر مادية في صفوفها ما يُطيل أمد المعركة لصالحها وليس ضدها، ويحوّل الضغط على صانع القرار "الاسرائيلي" أكثر من كونه عبء على المقاومة، ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن رئيس الأركان "الاسرائيلي" زامير أبدى شكوكه بجدوى المرحلة المقبلة من العمليات على أرض القطاع، مؤكدًا موقفه أمام الكنيست بأن الحرب تُدار لحسابات نتنياهو الشخصية فبسابقةٍ تعتبر الأولى في تاريخ المؤسسة العسكرية "الاسرائيلية".
2. الضفة الغربية: جبهة لا يمكن تحييدها:
بجانب معارك غزة، تركز المقاومة الفلسطينية في الوقت الحالي على تفعيل جبهة الضفة الغربية على الرغم من ضغط الاحتلال والسلطة الفلسطينية وفق التنسيق الأمني حيث نفذت السلطة عملية "حماية وطن" ضد مخيم جنين الذي يشكل ركيزة المقاومة في شمال الضفة الغربية خلال السنوات الماضية فيما كثف الاحتلال عملياته العسكرية في كلٍ من جنين وطولكرم.
وعلى الرغم من العمليات العسكرية "الإسرائيلية" والفلسطينية المناهضة للفعل المقاوم على حدٍ سواء إلا أن استمرار المحاولات من المقاومة في تفعيل جبهة الضفة الغربية يفرض على "اسرائيل" تحديًا إضافيًا بتوزيع قواتها خصوصًا في ظلّ بقاء الجبهة الشمالية لفلسطين "حزب الله في لبنان" ضمن معادلة الردع المحدود.
3. بين التحدي والصمود:
تشير الوقائع على سير المقاومة ضمن استراتيجية توحيد وتفعيل كافة الساحات ضد الاحتلال لكن التحدي القائم يكمن في مدى امكانية صمود المقاومة الفلسطينية في غزة أمام الترسانة العسكرية "الاسرائيلية"، حيث يتشكل الضغط الهائل عليها من: الآلة العسكرية "الاسرائيلية" من جهة، ومن الظروف الانسانية الكارثية من جهة أخرى حيث المجاعة والنزوح بين الفينة والأخرى، ويبقى السؤال المطروح: هل تستطيع المقاومة ادارة المعركة بعد اقترابها من العامين ببراغماتية تكتيكية تحافظ على زخمها العسكري وتبقي مشروعها الاستراتيجي قائمًا؟
تعكس المؤشرات الأولية عن مرونة تنظيمية عالية لدى المقاومة الفلسطينية، كما أن من الواضح وجود خطوط اتصال فاعلة بين القيادة السياسية والعسكرية داخل قطاع غزة وخارجه، ما يجعل القرارات الميدانية والسياسية متسقة مع بعضها البعض، حيث يعبر هذا التناغم عن تعزيز فرص الصمود دون التقليل من خطورة التحديات أو المبالغة في تقدير القدرات.
الخلاصة:
نحن أمام مشهد مفتوح على احتمالات معقدة، فما بين استمرار الدعم الغربي اللامحدود ل "اسرائيل" وما يقابله من ارادة مقاومة تحاول استثمار كل ساحة وكل ظرف لقلب المعادلة لصالحها، وبين سياسات التهجير "الاسرائيلية" الرامية لتصفية القضية الفلسطينية وتحديات البقاء، حيث يتحدد مستقبل الصراع ولا يستبعد تحديد مستقبل المنطقة بأسرها.