المعظم يتفق على أن الدولة هي الكيان السياسي الذي يتمتع بسلطة عليا على إقليم محدد وسكان دائمين، ويمارس هذه السلطة من خلال حكومة قادرة على إدارة الشؤون الداخلية والخارجية. ووفق القانون الدولي (اتفاقية مونتفيديو 1933):
تُعرَّف الدولة بأنها كيان تتوافر فيه أربعة عناصر رئيسة:
والعنصر المهم والأساسي للدولة هو الإقليم المحدد والذي يعني المساحة الجغرافية التي تمارس الدولة عليها سيادتها وسلطتها الكاملة. وهو عنصر أساسي لوجود الدولة، لأنه يحدد نطاق نفوذها القانوني والسياسي.
ويتكوّن الإقليم عادة من ثلاثة عناصر رئيسية:
فهل تتوفر جميع هذه العناصر في الحالة الفلسطينية سواء في الإقليم المحدد أو عناصر الدولة الثلاثة الأخرى!، سواء السكان الدائمون أو الحكومة الفعالة أو القدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى؟.
حتى إذا توفرت جميع المقومات اللازمة لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، فإنها لن تشكل سوى 22% من مساحة فلسطين التاريخية. لكن يبقى السؤال: ماذا عن حيفا وعكا ويافا والنقب؟ أليست هذه أيضًا أراضٍ فلسطينية؟ ومن المؤكد أن الكيان الإسرائيلي لن يقبل في أي ظرف من الظروف بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة، حتى ولو على شبر واحد من فلسطين.
تاريخيا كان الإعلان الأول عن دولة فلسطين في العام 1948 بعد مغادرة الانتداب البريطاني لفلسطين وإعلان قيام دولة(إسرائيل)، حين أعلن الحاج امين الحسيني حكومة عموم فلسطين في غزة. والإعلان الثاني كان عام في العام 1988 في الجزائر،وهذا الإعلان كان يرمز الى اعلان استقلال منظمة التحرير كدولة في المهجر أكثر منه اعلانا باستقلال حقيقي لفلسطين والذي مهد لدخول المنظمة في مفاوضات التسوية السلمية وما أدت إليه لاحقا.
فهل يُنتظر منّا أن نشكر من يدّعي أنه اعترف بدولة فلسطين؟ إن هذا الاعتراف، في جوهره، لا يعدو كونه إقرارًا بالتواطؤ في الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني، وموافقة ضمنية على اقتطاع 78% من أرض فلسطين التاريخية لصالح المشروع الصهيوني. إن ما يجري ليس إلا استمرارًا لسياسة الخداع التي تمارسها القوى الاستعمارية التي صنعت الكيان المحتل، ومنحته شرعية زائفة على حساب الحقوق الفلسطينية، ثم عادت لتسجل مواقف سياسية شكلية لا أثر لها على أرض الواقع. فهذه القوى تدرك تمامًا أن الدولة الفلسطينية، في ظل المعادلات الراهنة، لن ترى النور إلا في خطاب الحالمين، طالما أن الكيان الإسرائيلي يرفض مبدأ السلام من أساسه، ويواصل ابتلاع أراضي الضفة الغربية، ويشنّ حرب إبادة على غزة تمهيدًا لاحتلالها وتهجير سكانها قسرًا، كما يخطط لتهجير سكان الضفة أو إخضاعهم، في مسار متواصل من التطهير العرقي.
فلا يمكن النظر إلى موجة الاعترافات الدولية الأخيرة بفلسطين باعتبارها صحوة ضمير أو استجابة وجدانية محضة، فالعلاقات الدولية تُدار بالمصالح، وخاصة من قبل القوى الاستعمارية التي كانت أصلًا الراعي الأول للمشروع الصهيوني. صحيح أن بعض شرائح الرأي العام في تلك المجتمعات تأثرت ببشاعة الجرائم المرتكبة، غير أن الاعترافات الرسمية تبقى مرتبطة بالسياق السياسي الأوسع، وتشكل في جوهرها ثمرة لتضحيات الشعب الفلسطيني وصموده أمام سياسات الحصار والإبادة المنظمة ومشاريع التهجير القسري، أكثر مما هي انعكاس لتعاطف عابر. فالاعتراف الأخير لم يكن حدثًا معزولًا، بل امتدادًا لمسار سياسي متدرج بدأ منذ سنوات، حيث بادرت عدة دول أوروبية في عام 2024، مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا، إلى الاعتراف رسميًا بفلسطين، ثم لحقت بها في 2025 دول أخرى من بينها بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال ومالطا، ليرتفع عدد الدول المعترفة إلى 145 من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة، أي ما يقارب ثلاثة أرباع المجتمع الدولي. ومع ذلك، ظل الموقف الأوروبي منقسمًا؛ فبينما شكّلت السويد استثناءً مبكرًا منذ عام 2014، جاءت الموجة الثانية من الاعترافات في 2024، ثم الثالثة في 2025، لكن دولًا محورية مثل ألمانيا وإيطاليا ما تزال ترفض الإقدام على خطوة مماثلة، محافظة على انسجامها مع الموقف الأميركي الرافض لأي مسار جاد نحو الدولة الفلسطينية. وهذا التباين يعكس بوضوح أن الاعتراف، رغم قيمته السياسية والرمزية، يبقى أداة محكومة بحسابات المصالح والتحالفات، أكثر مما هو تعبير عن إرادة دولية موحدة أو قرار نهائي بحسم الصراع.
فهذه الاعترافات ليست تعبير عن يقظة أخلاقية لا سمح الله. وهي أيضًا لا تمثل إعلانًا واضحًا عن فشل المشروع الاستعماري، لأن القوى الاستعمارية لا تتراجع بهذه السهولة، وإنما تلجأ دومًا إلى الحيل والألاعيب النتنة.
إسرائيل لم تكن سوى مشروع استعماري أوروبي بامتياز، إذ تم جلب اليهود الأوروبيين إليها بتخطيط وتمويل وحماية من حكومات أوروبا، بهدف إقامة دولة لهم على كامل أرض فلسطين، كما جاء في وعد بلفور وقرار عصبة الأمم. في ذلك الوقت، كان عدد اليهود الفلسطينيين الأصليين لا يتجاوز ثلاثة بالمئة من الشعب الفلسطيني، ومع ذلك صُمم المشروع ليؤدي غرضًا مزدوجًا: أولًا، تقسيم المشرق عن المغرب ومنع قيام دولة عربية قوية يمكن أن تتحدى النفوذ الاستعماري وتسيطر على ثروات المنطقة، وثانيًا، حل ما اعتبرته أوروبا "مشكلة اليهود" عبر توطين الأوروبيين منهم في فلسطين واستخدامهم كأداة استراتيجية لتحقيق مصالح القوى الكبرى، ما حول الفلسطينيين إلى عنصر ثانوي في أرضهم، بينما أصبح الوافدون الأوروبيون الركيزة الأساسية للكيان الجديد.
لكن بعد الحرب العالمية الثانية واجه المشروع الصهيوني عقبات كبرى حالت دون تحقيق أهدافه المباشرة في فلسطين، فتم اللجوء إلى تكتيك تقسيم الأرض عبر قرار التقسيم، الذي لم يكن الهدف منه تنفيذه الفعلي، إذ لم يُطبق يومًا على أرض الواقع، بل مثّل خطوة مرحلية لمنح القوى الاستعمارية الوقت الكافي لاستكمال مخططها الاستيطاني واحتلال بقية فلسطين عام 1967. وعلى امتداد تلك العقود، قاوم الفلسطينيون المشروع الاستعماري بكل أشكاله، ما اضطر القوى الاستعمارية إلى اتباع سياسة التدرج والبطء في تنفيذ خططها، والتكيّف مع المقاومة الشعبية المستمرة. واليوم، يُعاد طرح مشروع تقسيم جديد تحت عنوان "حل الدولتين"، والذي يقتصر عمليًا على منح الفلسطينيين حيزًا ضئيلًا من الأرض، لا يتجاوز ربع فلسطين أو أقل، دون أي نية حقيقية لتطبيقه، ما يعني استمرار التنازل عن 78% من الوطن لصالح الكيان الصهيوني، واستمرار فرض السيطرة على الأرض والمصير الفلسطيني.
منذ إعلان قيام إسرائيل وحتى اليوم، ورغم رفضها المتكرر لقرارات الشرعية الدولية، لم تتوقف هذه الدول عن دعمها سياسيًا وعسكريًا وماليًا. والآن، بينما يعلنون اعترافًا شكليًا بدولة فلسطينية، فإنهم يواصلون دعم إسرائيل وهي ترتكب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، وهي الجريمة الأم التي تختصر كل الجرائم. فهل يمكن الوثوق بمثل هذه المواقف؟ بالتأكيد لا.
الاعتراف بحد ذاته لا يغير ميزان القوى على الأرض ولا يوقف الاستيطان أو الاحتلال العسكري، أقله في الوقت الراهن، كما أنه لا يفرض التزامات مباشرة على الدول المعترفة لتقديم حماية أو فرض عقوبات على إسرائيل. فعملياً هناك استحالة إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً على هذه الأراضي، إذ ومن المستحيل على أي فلسطيني الانتقال بين شمال الضفة الغربية وجنوبها إلا عبر بوابات إسرائيلية. كما يُعد الارتباط الاقتصادي للفلسطينيين بإسرائيل أحد أبرز ملامح الواقع الذي فرضه الاحتلال منذ عام 1967، و تم تصميم البنية الاقتصادية الفلسطينية بحيث تبقى تابعة للاقتصاد الإسرائيلي، سواء عبر التحكم في حركة العمالة، أو السيطرة على المعابر والحدود، أو فرض القيود على الإنتاج والتجارة. فمعظم الواردات والصادرات الفلسطينية تمر عبر إسرائيل، والعملة المتداولة (الشيكل) تعكس تبعية نقدية، كما أن عشرات آلاف العمال الفلسطينيين يعتمدون بشكل مباشر على سوق العمل الإسرائيلي كمصدر دخل أساسي.
كما أن الاعتراف الأوروبي جاء مشروطًا: دون خطوات لإنهاء الاحتلال، ودون تمكين حقيقي لقيام دولة فلسطينية مستقلة. في المقابل، حصلت هذه الدول على التزامات من القيادة الفلسطينية تقضي بفرض قيود على التعددية السياسية ومنع أي قوى معارضة لبرنامج السلطة القائم من المشاركة في النظام السياسي، والتحكم بالمناهج التعليمية، وتجريد الدولة المرتقبة من السلاح، ووقف المساعدات لعائلات الأسرى والشهداء، والتي أشار لها محمود عباس في خطابه المسجل في الأمم المتحدة. والنتيجة: سلطة منقوصة تحت وصاية غربية استعمارية، لا أكثر.
هكذا، نجحت الحكومات الأوروبية في تخفيف الضغط الشعبي الداخلي عبر مواقف شكلية تدعو لدعم حقوق الفلسطينيين، بينما واصلت عمليًا دعم إسرائيل دون أي عقوبات فعلية. والنظام السياسي الفلسطيني اكتفى باعتراف شكلي بالدولة على الورق، دون أثر حقيقي على الأرض، مما يمنح إسرائيل مزيدًا من الوقت لمواصلة سياساتها وجرائمها، ويوفّر للغرب مخرجًا سياسيًا يخفف من ضغط محاسبتها على الاحتلال.