في المشهد الفلسطيني الراهن الذي يتسم بتعقيدات غير مسبوقة على الصعيدين العسكري والسياسي، يأتي رد حركة المقاومة الإسلامية حماس على مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليشكل محطة فارقة في مسار الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ يعكس هذا الرد قدرة الحركة على الجمع بين الثبات على الثوابت والمرونة السياسية التكتيكية التي تحفظ الدم الفلسطيني وتكسر العزلة الدولية وتحمل في طياتها رسائل متعددة الاتجاهات، فالموافقة المبدئية على وقف إطلاق النار مقابل الإفراج عن الأسرى، ورفض الاحتلال والتهجير، وقبول إدارة مدنية وطنية مستقلة لقطاع غزة، إنما تكشف عن مزيج محسوب بدقة بين الواقعية السياسية والتشبث بالثوابت الوطنية، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام قراءة استراتيجية عميقة لموقف الحركة في ضوء التطورات الميدانية والضغوط الدولية والإقليمية، إذ لا يمكن النظر إلى هذا الرد باعتباره مجرد وثيقة دبلوماسية أو مناورة ظرفية بل هو تعبير عن إدراك حماس لموازين القوى ولحقيقة الحرب المفروضة على غزة منذ السابع من أكتوبر وما رافقها من حرب إبادة وحصار خانق وتجويع وتدمير للبنية التحتية، وما خلفته من تداعيات إنسانية غير مسبوقة، وبالتالي فإن الحركة أرادت أن توجه من خلال هذا الرد رسالة للعالم مفادها أنها معنية بوقف العدوان ورفع المعاناة عن شعبها لكنها ليست مستعدة مطلقاً للتفريط بالثوابت الجوهرية أو القبول بشروط إذعان تضمن للاحتلال السيطرة أو تفتح باب التوطين والتهجير، ومن هنا جاءت صياغة البيان متوازنة تميز بين القضايا الإنسانية والسياسية المرحلية وبين القضايا الاستراتيجية الكبرى كحق الشعب الفلسطيني في الأرض والعودة وتقرير المصير.
إن موافقة حماس على تبادل الأسرى وفق الصيغة المقترحة تعكس بوضوح إدراكها لأهمية هذا الملف في معادلة الصراع، فالأسرى لدى الحركة يمثلون ورقة استراتيجية بالغة الأهمية، ليس فقط لأنها تتيح الضغط على الاحتلال وإنما لأنها تعطي الحركة القدرة على تحقيق إنجازات ملموسة لشعبها في مقابل التضحيات الهائلة التي قدمها، ومن هنا فإن القبول بالتبادل تحت رعاية وضمانات دولية هو بمثابة صفقة استراتيجية، إذ يحقق تحرير أسرى فلسطينيين من السجون الصهيونية، ويثبت أن المقاومة قادرة على فرض شروطها في قلب المعركة، وفي الوقت نفسه يبرهن على أن حماس تتصرف بمسؤولية وتستثمر مكاسبها العسكرية في تحقيق إنجاز سياسي وإنساني يعزز شرعيتها الوطنية والشعبية، بل إن قبولها بمبدأ التبادل يعكس رسالة أبعد للوسطاء والعالم مفادها أن الحركة ليست متعنتة أو متشددة بل قادرة على الانخراط في تسويات مرحلية دون أن تفقد بوصلتها الكبرى.
أما ما يتعلق بقبول حماس تسليم إدارة غزة لهيئة وطنية من المستقلين أو التكنوقراط، فهذا بدوره يعكس قراءة استراتيجية عميقة لمآلات الصراع الداخلي الفلسطيني، فالقطاع الذي دمر الاحتلال بنيته التحتية يعاني من تحديات هائلة لا يمكن لفصيل واحد مهما بلغت قوته أن يتحملها منفرداً، ومن ثم فإن الحركة بطرحها هذا الخيار تحاول أن تفكك ألغام الانقسام وتحرج السلطة الفلسطينية التي ترفض تحمل مسؤولياتها الوطنية، وفي الوقت نفسه توجه رسالة إلى العرب والعالم بأنها غير متمسكة بسلطة شكلية أو بإدارة محاصرة، وأنها مستعدة للتخلي عن إدارة غزة إذا كان ذلك يخدم وحدة الصف الفلسطيني ويخفف الحصار والمعاناة، وهو موقف سياسي يقطع الطريق على دعايات الاحتلال التي تحاول أن تصور حماس كحركة سلطة متشبثة بالحكم على حساب الدم الفلسطيني، بل على العكس فإن الحركة تبرهن أنها مستعدة لتقديم تنازلات شكلية من أجل الحفاظ على الجوهر، فالجوهر عندها هو المقاومة وحماية القضية وليس الكرسي أو السلطة الإدارية، وهو ما يضع خصومها في مأزق كبير، إذ يثبت أنها الأقدر على الجمع بين المقاومة العسكرية والمرونة السياسية المسؤولة.
وإذا أمعنا النظر في توقيت هذا الموقف، نجد أن حماس اختارت لحظة سياسية حساسة للغاية، فالولايات المتحدة ومعها الاحتلال الإسرائيلي يتعرضان لضغط هائل من الرأي العام العالمي جراء الجرائم المرتكبة في غزة، وهناك تصاعد للمطالب الدولية بوقف الحرب وفتح المعابر وإدخال المساعدات، وفي ظل هذه الظروف فإن رد حماس جاء ليظهرها كصاحبة موقف أخلاقي مسؤول، فهي تبادر إلى إعلان الاستعداد لوقف الحرب وإطلاق الأسرى وتسليم الإدارة لهيئة مستقلة، مقابل الانسحاب الكامل ووقف العدوان، وهو ما يكشف صورة الاحتلال كجهة معرقلة للحلول ومتمسكة بالحرب والإبادة، وبهذا تضع حماس خصمها في الزاوية، وتجعل من أي رفض إسرائيلي لوقف إطلاق النار دليلاً على تعنته ووحشيته، بينما تحصد هي نقاطاً سياسية ومعنوية كبيرة على المستوى الدولي.
إن القراءة الاستراتيجية لموقف حماس تكشف كذلك عن إدراكها العميق للتوازن بين العمل العسكري والسياسي، فالحركة التي خاضت مواجهة غير مسبوقة مع الاحتلال وأثبتت قدرتها على الصمود رغم شراسة العدوان، تعلم أن الحروب لا تُحسم عسكرياً فقط، بل تحتاج إلى إدارة سياسية مرنة تستثمر الصمود العسكري في إنتاج مكاسب سياسية تعزز الشرعية وتراكم الإنجازات، وهذا ما تسعى إليه عبر قبولها المشروط بالمبادرة، فهي لم تقبل الخطة الأمريكية كما هي ولم تذعن لشروط الاحتلال، لكنها قبلت العناصر التي تخدم شعبها وتؤكد حضورها، وفي الوقت نفسه تركت القضايا الجوهرية الكبرى كقضية الأرض والعودة والاستقلال في إطار وطني جامع، تعني أن حماس تدفع باتجاه إعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس جديدة، وهذا يتناغم مع المزاج الشعبي الرافض للانقسام والمتطلع إلى وحدة وطنية تقود مواجهة شاملة مع الاحتلال، وبذلك فإن الحركة لا تكتفي بالرد على العدوان وإنما تسعى إلى توظيف اللحظة لصياغة معادلة سياسية جديدة تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وتحرج كل الأطراف العربية والفلسطينية التي تراهن على تصفية القضية أو تهميش المقاومة.
ومن الزاوية الإقليمية فإن هذا الرد يعكس ذكاءً سياسياً في التعامل مع الوسطاء والدول الصديقة، إذ أن الحركة بإعلانها موافقة مشروطة على وقف الحرب والإفراج عن الأسرى تعطي للوسطاء العرب والأتراك والقطريين والمصريين فرصة للتحرك بفاعلية وتمنحهم مساحة للتأثير، وفي الوقت نفسه تحرج الولايات المتحدة التي تريد الظهور بمظهر الوسيط النزيه بينما هي شريك مباشر في العدوان، كما أن حماس حين تذكر بوضوح أن أي قضايا تتعلق بمستقبل غزة والحقوق الفلسطينية مرتبطة بإطار وطني جامع وقرارات دولية، فإنها تغلق الباب أمام محاولات فرض حلول أحادية أو إملاءات خارجية، وتؤكد أن أي تسوية مستقبلية يجب أن تكون جماعية فلسطينية وليست مفروضة من الخارج.
إن الاستراتيجية التي تكمن خلف هذا الموقف يمكن تلخيصها بأنها استراتيجية "المرونة الثابتة"، حيث تظهر حماس استعدادها للتجاوب مع المبادرات الإنسانية والسياسية بما يحقق مصلحة شعبها، لكنها في الوقت ذاته تؤكد أن القضايا الجوهرية لا تنازل عنها إلا في إطار وطني جامع، وهو ما يضعها في موقع قوة أمام جمهورها وأمام العالم، ويمنحها القدرة على المناورة السياسية دون فقدان الشرعية أو التفريط بالثوابت، وهذا ما يميزها عن كثير من الأنظمة والفصائل التي سقطت في فخ التسويات المجانية أو التنازلات الكبرى، فالمرونة هنا ليست ضعفاً بل هي تعبير عن ثقة بالنفس وقدرة على إدارة المعركة بأدوات متعددة.
إن هذه القراءة الاستراتيجية لموقف حماس تؤكد أن الحركة بعد كل هذه السنوات من المواجهة والدمار والحصار استطاعت أن تبني تجربة سياسية ناضجة تمكّنها من الجمع بين المقاومة والعمل السياسي، وأنها باتت قادرة على إدارة المعركة بأفق إقليمي ودولي، وأنها تمتلك من الوعي ما يجعلها تستثمر اللحظة الراهنة لصالحها، فهي تعلم أن الاحتلال يعيش أزمة غير مسبوقة على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي، وتعلم أن الولايات المتحدة تخشى من انهيار صورتها بسبب دعمها الأعمى للعدوان، وتعلم أن الشارع العربي والإسلامي يغلي رفضاً للحرب، ومن هنا فإنها توظف هذا كله لتظهر كصاحبة مشروع وطني جامع مسؤول، لا كحركة معزولة أو متطرفة.
وفي المحصلة فإن رد حركة حماس على مقترح ترامب يشكل خطوة استراتيجية متقدمة، ليس لأنه يقود بالضرورة إلى وقف فوري للحرب، بل لأنه يعيد صياغة المشهد السياسي لصالح المقاومة، ويظهر الحركة في صورة منطقية مسؤولة، ويكشف الاحتلال كطرف معرقل، ويمنح الوسطاء فرصة للتحرك، ويمهد الطريق لإعادة بناء البيت الفلسطيني على قاعدة المقاومة والوحدة، ويؤكد أن الدم الفلسطيني الذي سال لن يذهب هدراً بل سيترجم إلى مكاسب سياسية وإنسانية تعزز حضور المقاومة، وبهذا يكون الموقف الجديد دليلاً على أن حماس لا تدير معركة عسكرية فقط بل تدير صراعاً استراتيجياً شاملاً يوازن بين الميدان والسياسة، بين الصمود العسكري والمرونة السياسية، بين الثوابت الكبرى والتكتيك المرحلي، وهو ما يجعلها أكثر قدرة على قيادة المرحلة المقبلة مهما كانت التحديات والضغوط.
الأسيرالمحرر ربحي بشارات
4.10.2025
الدوحة