بقلم/ عيسى قراقع
في خطوةٍ تنذر بانهيارٍ أخلاقي وقانوني، صادق الكنيست الإسرائيلي في العاشر من تشرين الثاني2025 بالقراءة الأولى على قانون يسمح بإعدام الأسرى الفلسطينيين، ليست هذه القراءة التشريعية مجرّد إجراء قانوني داخلي، بل هي إعلان رسمي عن نية إلغاء إنسانية الأسير الفلسطيني، وتحويل الاحتلال إلى مؤسسة قانونية للقتل.
بهذا المعنى، يتحول البرلمان الإسرائيلي من هيئةٍ تشريعية إلى منصة للموت باسم القانون، حيث تُمنح الجريمة غطاءً قانونيًا وتُمنع العدالة من التنفس، ويعتبر البرلمان الاسرائيلي أكبر منصة عالمية في تشريع قوانين عدائية لحقوق الشعب الفلسطيني ولمبادئ حقوق الانسان، وأنه الغطاء الذي يشرعن القتل والاحتلال وإعدام التاريخ الفلسطيني زمانا ومكانا وهوية.
منذ النكبة والاحتلال يمارس الإعدامات الميدانية الفردية والجماعية بحق الشعب الفلسطيني، وكانت الإبادة في غزة ساحة مكشوفة وعلنية للاعدامات خارج نطاق القضاء، الاخفاء القسري، القبور الجماعية، والاستباحة الدموية، وبتعليمات رسمية، وفتاوى دينية، بحيث تحولت اسرائيل إلى حاكم وجلاد باسم الاله، وفي قلب السجون ارتكبت إبادة فظيعة واعدامات بحق الأسرى جسديا ومعنويا وروحيا، في اكبر هيجان سادي وانتقامي في تاريخ السجون التي تحولت إلى مسالخ ومختبرات للتعذيب وسحق إنسانية الإنسان.
شهادات الاسرى توضح أن الإعدامات تجري على أرواح الاسرى وبطرق بشعة وبأشكال عديدة، من الضرب والتجويع والاغتصاب وانتشار الأمراض والإذلال وتهديم إنسانية الانسان، ليصبح الإعدام ليس قتل الجسد فقط وانما قتل الكرامة، وصهرها في أفران التوحش وتحويلها إلى انقاض بشر ومجرد أشياء وجثث.
القانون المقترح ينتهك جوهر القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949 التي تنصّ على حماية الأسرى، وتُحرّم أي شكل من أشكال الإعدام أو الانتقام.
كما يخالف العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يُجرّم سلب الحياة تعسفًا، ولكن في زمن الإبادة أصبحت منظومة العدالة الدولية عاجزة ومنهارة، وكأن إسرائيل أعدمت الأمم المتحدة وقراراتها وممثليها ولم يبق غيرها يعربد في هذه المدينة، وبالصواريخ وحبال المشانق تعيد تعريف مفهوم آخر للقيم التي يسطرها الأقوياء والقتلة.
التطرف والفاشية أصبح سياسة رسمية، وأن حكومة الاحتلال تستمد شرعيتها من دماء الفلسطينيين، وان الحرب على الشعب الفلسطيني هو أساس الوجود الصهيوني، فلا هدنة مع الموت، لهذا تتحالف كل مكونات المجتمع الاسرائيلي من أجل اخفاء الوجود الفلسطيني: البرلمان والحكومة والجيش والقضاء والإعلام، ليصبح القتل عقيدة وأيديولوجبة، وقاعدة وليس استثناء.
إسرائيل ترفض الخضوع لأي نظام قانوني دولي، وتعتبر نفسها دولة فوق العدالة، وأن نظرتها للآخرين تحددها البندقية، وأنه كلما زاد القتل تقدست أرض إسرائيل وتحقق الوعد بين الأرض والتوراة والسماء.
تشريع موت الأسرى يستهدف الروح الفلسطينية ذاتها؛ إذ يُحوّل الأسرى "رمز الكرامة والحرية" إلى "مجرمين" يستحقون الإعدام، في مسعى لتحطيم الوعي الجمعي الذي يقدّس المقاومة والدفاع عن حق تقرير المصير، وتحرير الأرض من قيود الاحتلال.
في جوهره، هذا القانون ليس دفاعًا عن الأمن بل تبييض منهجي لجرائم الاحتلال، فمن خلال وصم كل عمل مقاوم بـ”الإرهاب”، تُشرعن إسرائيل قتل المقاومين وتعذيب الأسرى وتدمير البيوت واغتيال المدنيين ، وتجريد نضال وكفاح الشعب الفلسطيني من شرعيته القانونية والانسانية والاخلاقية،
بهذا، تصبح المقاومة جريمة، والاحتلال هو الضحية، أنه قلب مريعٌ للقيم والمعاني، وإمعان جديد في إنكار الحقوق القومية للشعب الفلسطيني.
قال الكاتب كريستوس كازاتراكيس: "حين يُغتصَب الوطن، تصبح المقاومة ليست خيارًا، بل شرطًا للإنسان أن يبقى إنسانًا"، هذا القول يعيد تعريف الحرية بوصفها فعلًا وجوديًا قبل أن تكون حقًا سياسيًا، فحين تسلب الدولة المحتلة كل معنى للحياة، لا يبقى أمام الإنسان سوى أن يقاوم كي يثبت أنه ما زال حيًّا.
وهنا يلتقي فكر كازاتراكيس مع نيلسون مانديلا الذي قال في دفاعه أمام محكمة بريتوريا عام 1964: "لقد حاربت هيمنة البيض، كنت أحلم بمجتمع حر وديمقراطي يعيش فيه الجميع بكرامة متساوية، وهذا حلم مستعد لأن أموت من أجله".
مانديلا لم يكن يبرر العنف، بل كان يشرّع أخلاقيًا للمقاومة ضد العنف المؤسسي والعنصرية، وكما هو الحال في جنوب إفريقيا، فإن الفلسطيني اليوم يقاوم نظام فصل عنصري وجرائم حرب واستعمار استيطاني، وهو بذلك يمارس حقًا تضمنه المواثيق الدولية مثل القرار 3070 للجمعية العامة للأمم المتحدة (1973)، الذي يقرّ بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في الكفاح بجميع الوسائل المتاحة، وأن أي اسير يقع في قبضة المحتل فهو أسير حرب ومحارب قانوني.
القانون الإسرائيلي يفضح انهيار فكرة "الديمقراطية" التي تدعيها إسرائيل، لأنه ينفي عن الآخر حقه في أن يكون إنسانًا، الفيلسوف جان بول سارتر قال في نقده للاستعمار الفرنسي بالجزائر: "حين تقتل المستعمِر، فهو لا يقتل إنسانًا، بل فكرة الحرية التي تهدد نظامه".
وهكذا، حين تسعى إسرائيل لإعدام الأسير الفلسطيني، فهي لا تسعى فقط إلى قتله، بل إلى قتل فكرة الحرية التي يحملها جسده الأسير، فالقانون لم يُسنّ لمحاربة “الإرهاب”، بل لمحاربة المعنى الإنساني للمقاومة.
ويعبر غوستاف رادبروخ عن هذه الحالة بقوله: "حين يصبح القانون نفسه أداة للظلم، فإن مقاومته تصبح واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا".
إن الهجوم على إعانات الأسرى و الشهداء والجرحى هو إعدام منهجي لرموز الحرية، وتحويل حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى حركة إرهابية، وانتهاك خطير للمكانة القانونية والوطنية للنضال الفلسطيني ومشروعيته، وكما تعدم الأجساد تعدم الجغرافيا وتعدم الوطنية والأفكار والثقافة.
إعدام الأسير الفلسطيني ليس جريمة ضد فرد، بل ضد الذاكرة الوطنية الفلسطينية التي ترى في الأسير مرآة لكرامتها الجمعية، فكل أسير هو رمز للثبات والوعي، وكل انتهاك هو محاولة لقتل الحلم الفلسطيني بالتحرر.
الحرب على الأسرى هي حرب على الشعب الفلسطيني، حرب على المناهج التعليمية والرموز الوطنية، حرب على الأناشيد والقصيدة والأغنية، تفريغ السردية من محتواها، والرواية من فصولها التاريخية.
إن كانت الحرب على غزة قد توقفت، مع أنها لم تتوقف، فإن الحرب على الأسرى مستمرة وبشكل مريع، وأصبحت ساحة السجون منفصلة عن أي سياق سياسي أو او خطة أو أي انتباه، لا فلسطيني ولا عربي ولا دولي، لم تذكر الإبادة في السجون في اجتماعات أو مشاورات لا إقليمية ولا دولية، لم يتوقف ابن غفير عن استعراض انحطاطه في تعذيب الاسرى والاعتداء عليهم، فالأسرى الهدف النهائي لهذه الابادة، جبهة أخرى مشتعلة، وصمت مريب، وأجساد تطحن بين الحديد والعجز، لم يصل أحد إلى معسكر سدي تيمان، لم يسمع أحد صوت امرأة غزية اغتصبت اربع مرات في الأسر، لم ير أحدا جثثا تخزن في ثلاجات المعسكرات، قتلت وشوهت ودفنت في النسيان.
ما قيمة الوطن بلا إنسان؟ اسألوا من قضوا سنوات عمرهم خلف القضبان، اسألوا من تركناهم دهورا ولم نبحث عنهم لا في السجن ولا تحت التراب، والمفارقة أننا تصفق لهم في كل المناسبات، نكتب عنهم، نعلق صورهم، ولا أدري كيف وصلنا إلى حالة نستعين بالإنشاء اللغوي بديلا عن الفعل وكفى الله المؤمنين شر القتال، ولا ادري كيف لا نشعر ونحن نغتصب جميعا والكل تحت البسطار.
إن تشريع إعدام الأسرى وتحويل السجون إلى معسكرات للقتل البطيئ ليس سوى فصلٍ جديد في مشروعٍ استعماري إبادي يسعى إلى قوننة الموت وإلغاء الحرية ودفنها في زنزانة معتمة، دفننا جميعا احياء واموات.
إسرائيل بهذا القانون لا تدافع عن أمنها كما تدعي، بل تؤسس لنظام عنصري احلالي مكتمل الأركان، يشرعن الإبادة باسم القانون، ويشرعن العبودية والخضوع تحت جحيم الموت الذي لم يتوقف في كل مدينة وقرية ومخيم.
الحرية لا تُمنح من الأعلى، ولا تحددها تشريعات همجية، إنها تنبثق من رحم الوجع حين يقرر الإنسان أن يقول لا”، وأن ينتصر لحياته الحرة بلا تنازل أو مساومة.
المقاومة ليست جريمة، إنها شرف الإنسان حين يُحرم من العدالة”، وحين لم يبق شيء سوى الخراب والاستيطان والنهب والسلب، فأما حياة تسر الصديق وأما ممات يغيظ العدى، وبعد كل هذا الموت فلا مراهنة الا على الروح الفلسطينية وحدة وصمودا ومقاومة.
ان مواجهة هذا القانون لا تكون بالسلاح وحده، بل بالوعي، بالكلمة، بالموقف، وبالتمسك بالكرامة كقانون أسمى من كل تشريع زائف، نحتاج إلى لغة مختلفة تفضح ذلك السيف الذي ينغرس في النصوص وفي أجسادنا.
لماذا لم يعقد مجلس الأمن لمناقشة الجرائم ضد الأسرى؟ وان كان ذلك صعبا فلنحشد لأكبر محاكمة ضمير شعبية إنسانية جماهيرية عالمية لإنقاذ الأسرى من الموت، أين السياسيون والدبلوماسيون ومؤسسات حقوق الإنسان؟ قانون الإعدام فوق رؤوسنا، الإعدام السياسي والإنساني والوجودي، اتركوا الأقلام وفكوا حبال المشانق عن أبنائكم وبناتكم، انظروا من نافذة الروح، هناك حياة تستحق الحياة، وهناك شمس في السماء.
التاريخ لا يغسل بقوانين جائرة، والدم لا تمحوه عبارات وعربدات شياطين جهنمية، وكما قال الشهيد باسل الأعرج: "من يقرأ التاريخ لا يهزم، الذاكرة الفلسطينية لا تعدم".