ادعى جهاز المخابرات "الاسرائيلي" (الشاباك) بالاشتراك مع سلاح الجو "الاسرائيلي" تنفيذه أمس الأربعاء الموافق 19 نوفمبر 2025 لعملية اغتيالٍ عسكرية طالت نائب قائد لواء غزة وقائد كتيبة الزيتون الشرقية في مدينة غزة عماد إسليم، بالإضافة لقائد الوحدة البحرية لكتائب القسام في قطاع غزة في منطقة مواصي خان يونس، حيث كان القائد إسليم صاحب نفوذٍ عملياتي على مستوى لواء غزة الذي يشكل منطقة الجهد الرئيسي بالنسبة لقوات الاحتلال طوال الحرب الممتدة على مدار سنتين تقريبًا، ليكون له عظيم الأثر في المعارك الميدانية التي خاضها ضد الاحتلال.
ولا يمكن قراءة اغتيال إسليم بمعزل عن الإرث التاريخي للكفاح الفلسطيني، الذي يمتد منذ عهد عز الدين القسام قبل تسعين عامًا، مرورًا بكل مرحلة واجهت فيها المقاومة محاولات التصفية والاقتلاع، حيث يوافق اليوم الذكرى الـ 90 لاستشهاد القائد المسلم عز الدين القسام في أحراش يعبد في مدينة جنين، ليعتبر القسام ملهم الثورة المسلحة في فلسطين بعد أن قدم إليها من سوريا مطاردًا من الاحتلال الفرنسي لسوريا.
ناقلًا تجربته العسكرية والسياسية التي اكتسبها من قتاله ضد الفرنسيين للشعب الفلسطيني الذي كان يواجه آنذاك خطر الهجرة الصهيونية الرامية لاحتلال أرضه بإشرافٍ بريطاني، وقد استشهد برفقة بضعة رفاقه خلال اشتباكٍ مسلحٍ مع القوات البريطانية.
لتستكمل عملية الكفاح المسلّح من بعده، حيث استلم قيادة المجموعات العسكرية الشيخ فرحان السعدي الذي نفذت فيه الحكومة البريطانية في فلسطين حكم الاعدام على الرغم من طعنه في سنٍ كبيرة، وقد استمرت العمليات العسكرية بعدها حتى جائت النكبة الفلسطينية، واستمر العمل الفدائي الفلسطيني ضد الاحتلال "الاسرائيلي" بأسماء وأشكالٍ مختلفة.
فمن تأسيس حركة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مرورًا بحركة فتح قبل تغيير نهجها واعترافها بمشروعية الاحتلال على أرض فلسطين وقبولها المنهج الاستسلامي الذي هي عليه حاليًا، وصولًا للحركات الاسلامية التي ظهرت بشكلٍ رسمي مع اندلاع انتفاضة الحجارة في الثامن من ديسمبر 1987.
وتكون الانتفاضة الشرارة التي أشعلت فتيل الغضب الفلسطيني الذي لم يهدأ منذ تلك اللحظة إلى يومنا هذا، وقد عمل الاحتلال على اتباع العديد من السياسات لتصفية حركات المقاومة الفلسطينية لكنه لم ينجح في أيِ منها بالشكل الذي يحيد الحركة تمامًا، بل كانت نجاحاته محدودةً من خلال سجن بعض القيادات السياسية والعسكرية وتحييدهم عن ساحة العمل السياسي والعسكري.
وعلى الرغم من ذلك إلا أن بعض تلك القيادات كانت قد سيّرت عملياتها العسكرية ضد الاحتلال وهي قابعة خلف قضبان السجون "الاسرائيلية"، كما تعرضت الحركات المقاومة لحملات تجفيف ينابيع من حيث الموارد البشرية والمالية على حدٍ سواء، فمن ضربة العام 1986 لحركة حماس مرورًا بضربة عام 1996 باشتراك قوات الاحتلال والسلطة الوطنية الفلسطينية، وصولًا لإبعاد قيادات حركتي الجهاد الاسلامي وحماس لمرج الزهور في لبنان.
بعض اغتيالات التسعينات حتى طوفان الأقصى (2023-2025):
كما عمل الاحتلال على تصفية مئات القادة العسكريين والسياسيين الفلسطينيين دون أن يفتّ ذلك في عضدها، فقد اغتيل عماد عقل والمعروف فلسطينيًا بـ "أسطورة الجهاد والمقاومة" والمعروف "اسرائيليًا بـ (ذو الأرواح السبعة).
والذي كان أحد الأسباب الرئيسة التي تدفع رئيس الوزراء "الاسرائيلي" اسحاق رابين لقوله: (أتمنى أن أنام أصحو فأجد غزة قد غرقت في البحر)، كما اغتيل يحيى عياش المهندس الأول لكتائب القسام في الخامس من يناير 1996، ليتلوا ذلك عمليات الثأر المقدس بقيادة الأسير القائد حسن سلامة.
وفي سياق الاستهداف المتواصل للكفاءات العسكرية الفلسطينية طالت الاغتيالات قادة المشروع الصاروخي الأول مثل نضال فرحات وتيتو مسعود وسعد العرابيد، غير أنّ هذه الضربات لم تُوقف التطوير العسكري، بل جاءت بنتائج عكسية؛ فبعد اغتيالهم تسارعت مراحل صناعة الصواريخ التي وصلت كل جغرافية فلسطين والطائرات المسيّرة، واتسعت قدرات المقاومة إلى مدى غير مسبوق.
كما اغتال الاحتلال القائد عدنان الغول في العام 2004 إلا أن ذلك لم يضعف المقاومة بل جعلها تستمر في مشروعها حتى حولت قاذف الياسين الذي كان يعتبر الغول صاحب فكرته الأساسية لقذيفة ياسين ب 105 ملم محاكيةً للقذيفة الروسية الترادفية، والتي كان لها الأثر البالغ إظهار ضعف الصناعات الحربية "الاسرائيلية" المتغنيّة بدبابة الميركافا، كما صنعت المقاومة بندقية القنص باسم "الغول" لإبقاء ذكر الشهيد الغول في ميدان القتال.
كما اغتالت قوات الاحتلال كلًا من قائد لواء خان يونس رافع سلامة وقائد هيئة الأركان لكتاب القسام محمد الضيف خلال معركة طوفان الأقصى في شهر يوليو 2024، إلا أن المعارك استمرت بذات الوتيرة، بل واشتدت ضربات المقاومة مستعينةً بدراسة تكتيكات الاحتلال القديمة والجديدة والعمل على مناهضتها لضربها في مقتل، حيث تولى القيادة من بعد الضيف القائد محمد السنوار الذي اغتيل مع قائد لواء رفح محمد شبانة بعد أشهرٍ قليلة، لتستمر المعارك مع زيادة حدتها وقوتها.
وعليه، فإن ما أثبتته التجربة الممتدة منذ عهد القسام حتى اليوم أنّ سياسة الاغتيالات، رغم ما تحقّقه من أرباح تكتيكية محدودة، لم تُحدث يومًا تحولًا استراتيجيًا في ميزان الصراع، فكل قائدٍ يغيب تخلفه قيادة جديدة، وغالبًا أكثر تطورًا وصلابة، ما يجعل الاغتيال أداة فقدت تأثيرها طويل المدى.
كما أن من الجدير ذكره، أن اغتيال القادة الفلسطينيين لم يَعُد يُغيّر قواعد اللعبة، بل يكشف عمق مأزق الاحتلال الذي يواجه حركات مقاومة تمتلك القدرة على تجديد نفسها وامتصاص الضربات وإعادة إنتاج القوة، وإذا كان الاحتلال يظن أن تصفية القادة ستغير النتيجة، فإن مجمل التجربة التاريخية، من القسام حتى إسليم، تؤكد أن الغائب يُستبدل، بينما الأزمة البنيوية للاحتلال هي التي تتفاقم.
وما دامت جذور الصراع قائمة، وما دام الاحتلال قائمًا فوق أرضٍ ليست له، فإن المعركة ستبقى مفتوحة؛ معركةً تتجه مؤشّراتها —على خلاف ما يريد الاحتلال— نحو لحظةٍ تاريخية تقترب كل يوم: لحظة تراجع المشروع "الصهيوني" وانكسار إرادة الهيمنة أمام شعبٍ لم يتخلّ يومًا عن حقه في الحرية.
ولا تبدو البيئة الدولية اليوم قادرة على منح الاحتلال التفوق الذي اعتاد عليهسابقًا؛ فالنظام العالمي يعيش حالة سيولة غير مسبوقة، تتآكل فيها شرعية القوى المهيمنة، ويتصاعد حضور الفاعلين غير الدوليين، وهو ما يجعل مشروع الاحتلال أكثر هشاشة من أي وقت مضى.