طوفان الأقصى وإعادة تعريف معادلة القوة

تعبر معادلة القوة "الإسرائيلية" عن مزيجٍ من التفوق التكنولوجي، القدرة البشرية، والاستراتيجيات الميدانية الضامنة للردع والحسم السريع، حيث كشفت معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023 – 10 أكتوبر 2025) عن التأثيراتالمباشرة لهذه المعادلة، مُبرزةً نقاط ضعفٍ كانت خفية قبل المعركة، وطارحةً تساؤلاتٍاستراتيجيةٍ حول القدرة الفعلية للقوة "الإسرائيلية" على إدارة الجبهات المتعددة.

تآكل الردع وخسائر الجبهات:

برزت أزمة نقص الجنود المقاتلين بحدة بداية المعركة ووسطها، نتيجة استنزاف آلاف الجنود قتلى ومصابين جسديًا ونفسيًا، وارتفاع عدد غير المؤهلين للخدمة في قوائم "الجيش الإسرائيلي"، وقد أظهرت هذه الأزمة هشاشة الردع الميداني، خصوصًا مع انشغال "إسرائيل" على جبهات غزة، لبنان، سوريا، والضفة الغربية التي تبقى تهديدًا قائمًا بلا توقيت محدد.

فيما تراجعت حدّة هذه الأزمة إلى حدٍ ما مع اقتراب نهاية المعركة، لطبيعة المعارك التي أصبحت أقل اعتمادًا على القوى البشرية المباشرة، وتركيزها أكثر على أنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات العسكرية المفخخة، بالإضافة لتكثيف الجهد الاستخباري، وتمركز "الجيش" في مناطق يصعب على المقاومة وصولها، لتوظيف الاحتلال سياسة الأرض المحروقة وعددٍ من الأساليب العسكرية التي أضعفت المقاومة فيها.

ومن الجدير ذكره، أن بعض أزمات "الجيش الإسرائيلي"، مثل ضعف التحفيز ونقص الكفاءات، لم تظهر فجأة مع طوفان الأقصى، بل كانت موجودة مسبقًا، لكن قدوم عملية الطوفان كان بمثابة صاعق التفجير المبين للأزمة على حقيقتها، ففي الوقت الذي تزداد فيه أهمية التكنولوجيا يومًا بعد يوم، لا يستغني "الجيش" عن العنصر البشري المقاتل، والذي يعبر عن جوهر الأزمة، حيث أصبح الجندي البري بمثابة (الكعب الضعيف) في بنية "الجيش الاسرائيلي"، ليظهر فشل منظومة التحفيز لديه أيضًا.

فشل بوتقة الصهر وانعكاسات الهوية:

تعتبر نظرية (بوتقة الصهر) من أهم النظريات لدى المجتمع "الاسرائيلي"،حيث إن نجاحها يدعم القوة العسكرية والسياسية، ويعزز الاستقرار السياسي لـ "الدولة"، وقد نجحت في ترسيخ ذاتها كنظرية قابلة للتطبيق حتى بدء معركة طوفان الأقصى، التي أظهرت التفكك الاجتماعي لدى المجتمع "الاسرائيلي"، والذي أظهر الأزمة العسكرية الحقيقية لديه؛ إذ كشفت المعركة أن "الجيش" الذي يفترض أنه "جيش الشعب" يعاني انقسامًا داخليًا في دافعية القتال، وهو ما يفسّر العجز البشري الكامن بـ (7500 مقاتل) الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، وتراجع القدرة على تعويض الخسائر البرية.

فقد ارتبط هذا الضعف البنيوي ارتباطًا مباشرًا بانهيار صورة "إسرائيل" كقوة ردع إقليمية، فبينما بنت واشنطن والغرب تحالفهما الاستراتيجي مع "إسرائيل" على فرضية التفوق العسكري المطلق، فإن طوفان الأقصى ضرب هذه الفرضية من جذورها؛ إذ تمكّن مئات المقاتلين فقط من إحداث اختراق استراتيجي لا يُفترض نظريًا أن يحدث في دولة تصف نفسها بأنها الأكثر أمنًا في المنطقة، خصوصًا مع افتقارها للعمق الجغرافي الاستراتيجي.

ومن هنا يصبح فشل "الجيش" في القدرة على الحسم العسكري بعد وقف إطلاق النار –كما في حادثة الهجوم على القوة الإسرائيلية جنوب القطاع– امتدادًا مباشرًا لهذا التصدّع البنيوي، وليس مجرد خلل تكتيكي، كما أن استمرار المقاومة في تنفيذ عمليات تكتيكية رغم وقف إطلاق النار، يضع "إسرائيل" أمام معادلة جديدة، فليس فقط أنها فقدت قدرتها على الحسم العسكري، بل فقدت قدرتها على فرض قرارها على الميدان، وهو ما ينسجم تمامًا مع تراجع صورتها الدولية.

وفي السياق ذاته، يعتبر الترابط بين فشل بوتقة الصهر، والعجز البشري، وانهيار صورة الردع، السبب الرئيس في الدفع للتساؤل الوجودي (لماذا وجدت إسرائيل؟) إلى الواجهة مجددًا في أروقة الغرب، خاصة بعد اعتراف قادة عسكريين غربيين بعدم ضمان تفوق إسرائيل في أي حرب مقبلة، كما أن الدعم الغربي والعربي السري لـ "إسرائيل" لم يعد قادرًا على إعادة ترميم صورتها، فلم تعد الإشكالية مقتصرة على تهديدات خارجية يمكن التعامل معها بأساليب القوة الناعمة أو الخشنة، بل امتدت لتصبح داخلية، فمن البنية العسكرية المفككة مرورًا بالمجتمع المنقسم ووصولًا "للجيش" الذي لا يستطيع ترجمة الدعم السياسي إلى إنجاز ميداني.

فشل الاغتيالات وصمود المقاومة:

هدفت المساندة الغربية لسحق حركات المقاومة عمومًا وحركة حماس خصوصًا، وكان من أبرز أدواتها الاغتيالات المستهدفة لقادة الحركة، وعلى الرغم من ذلك، لم تؤثر الاغتيالات على البناء التكتيكي والاستراتيجي للمقاومة، بل استمرت العمليات القتالية بالتنسيق مع جهود التفاوض الخارجية، مما يبرز أن امتلاك المقاومة للقدرة العالية على إدارة المعركة مع الحفاظ على استمرارية العمل العسكري الميداني بالتنسيق مع عملية التفاوض في الخارج بتنسيقٍ عالٍ.

حيث حاولت "إسرائيل" توظيف الاغتيالات لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني،عبر تغيير الأدوار السياسية وإضعاف قدرة المقاومة على قيادة المجتمع، وهو ما ترافق مع ضغوط على السلطة الفلسطينية ودعوات لاعتقال رئيسها محمود عباس، على لسان إيتمار بن غفير، ليمتد هذا المسار لاستهداف المناهج التعليمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبارها –وفق الرؤية الإسرائيلية– حاضنة لثقافة المقاومة.

غير أنّ هذا المشروع لم ينجح تاريخيًا، إذ أثبتت الانتفاضتان الأولى والثانية أن الوعي الوطني الفلسطيني عصيّ على الهندسة القسرية، وأن محاولات إعادة تشكيله تصطدم دائمًا بهوية راسخة تتغذى من التجربة والخبرة النضالية، وبالتالي، فإن هذه الإجراءات لم تُحدث التحوّل الذي سعت إليه "إسرائيل"، وبقيت آثار معركة طوفان الأقصى على المجتمع "الإسرائيلي" أعمق بكثير من تأثيرها على البنية الشعبية الفلسطينية رغم حجم التضحيات والدمار.

الخلاصة:

وجدت "اسرائيل" نفسها لأول مرة منذ العام 1948 أمام مراجعة استراتيجية شاملة لأسس عقيدتها الأمنية المرتكزة على الردع والإنذار المبكر والحسم السريع، حيث مثلت المعركة تهديدًا وجوديًا لا حدوديًا لـ "اسرائيل" فيما لم تهدد بقاء الشعب الفلسطيني، بل وأفشلت المخططات التي كانت تهدف لتصفية بقاءه، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو مخيمات الشتات.

كما أظهرت مصطلح "الجيش الذي لا يقهر" بمظهره الحقيقي، المؤكّد على أن مناعة الجندي "الاسرائيلي" تتمثل في معداته التي يملكها وليس في قوته الجسدية أو الاعتقادية.

وقد أكدت المعركة على فاعلية محور المقاومة الإقليمي القادر على إدارة المعركة بتنسيق عالي، حيث ظهر ذلك فيما حدث بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وحركة أنصار الله في اليمن من خلال ضربات البحر الأحمر التي أعاقت التجارة العالمية لتعاونها مع "اسرائيل"، وحزب الله اللبناني الذي وظف سلاح المسيرات بعيدة المدى، والذي توقف لظروفٍ ميدانية حالت بينه وبين استمراره ضمن خطةٍ تكتيكيةٍ محسوبة.

وعليه، فإن معركة طوفان الأقصى تمثل نقطة تحوّل في موقع "إسرائيل"الإقليمي وفي معادلة القوة مع محور المقاومة، مدشنةً مرحلة جديدة عنوانها: (سقوط التفوق "الإسرائيلي" التقليدي وصعود بيئة إستراتيجية معاكسة بالكامل).

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025