حق لأمّة أن تعانق مشاعرها مشاعر أم الشهيد معتصم رداد

وليد الهودلي

كاتب وأديب فلسطيني

لم تكن نهاية لفيلم سينمائي يواسي المشاهد نفسه بأنه فيلم وخيال كاتب أومخرج، ومع هذا لو كان ذلك فيلما لضربت هذه النهاية أعماق اعماقنا ولفجّرت هناك قنبلة من الوزن الثقيل، كيف استقبل قلب أمّه هذا الخبر؟ سارت بكل دقّات قلبها ما يزيد عن عشرين سنة وهو يخفق عاليا ليبلغ أعلى ما يبلغ قلب موجوع يتعرض لموجات عالية من المرارة والقهر والقلق، تراكمت عليه عذابات الاسر وعذابات المرض العضال وعذابات إهمالهم الطبيّ المتعمّد بل توظيف آلام المرض كي يشفي صدورهم الحاقدة، لم يكن أمامها سوى الصبر والدعاء واللجوء التام لرب رحيم، كان لها السلوى والمخفّف من وقع تلك الويلات.

رحلة طويلة جدا خاضت غمارها وهي خائفة تترقّب بفؤاد أمّ موسى الذي أصبح فارغا، لم يكن الامر أن تأخذه أمواج البحر فتسكنه أعماقها بل كانت أمواج ضغائن بني صهيون السوداء، كان ولدها يصارع الموت والقهر بكلّ ألوانه القاتمة وحيدا ليس أمامه إلا بحر أحقادهم وسرطان يسري في جسده، كان لمرضى السرطان سرطان واحد بينما كان لردّاد سرطانان وأشدهما هو ذاك الذي أحاطوه به من كلّ جانب.  

كيف صمد قلب هذه الام العظيمة عشرين سنة على هذا العذاب؟ أم موسى يوما أو بعض يوم جاءها الخبر من أخته التي بعثتها لتقص خبره، أمّ ردّاد مكثت عشرين سنة وهي تقص خبره فترتدّ إليها الاخبار عواصف عاتية تجتاح قلبها الكبير، كانت في صبيحة كلّ يوم تنتظر وتترقّب خبرا جميلا يقول لها أن شفاءه ممكن وأن فرجه أصبح قريبا، تشترك مع أمهات الاسرى في كون أبنائهن في السجن بينما هي ولدها في ثلاثة: السجن وسجن السرطان وسجن الاهمال الطبي، والثاني والثالث هي أشدّ من الاوّل فتكا لقلبها. وتودع شمس المغيب دون خبر، غابت هذه الشمس عليها على مدار العشرين سنة.  

مرّة واحدة أخيرا تلقّت خبر الافراج عنه، وكان ذلك إلى مصر، خافوا من هذا الجسد الذي يقترب من الموت،  كيان عظيم يرتعب من ردّاد منهك الجسد علّه يشكّل لعنة تطاردهم وتقضّ مضاجعهم، ألا تكفيهم غزّة الضحيّة الجريحة، ألا تكفيهم لعنات أطفال غزّة الشهداء، هذا لا يحتمل!  

ان يعود رداد إلى بيته في صيدا طولكرم فيصب الزيت على النار المشتعلة هناك؟ هذا رعب ما بعده رعب، الكيان يخشى هذا .. كيان يخشى المرضى ويخشى الشهداء أشد من خشيته من الاحياء.  

كيف طار قلبها إلى مصر وكيف عانقت روحها روح ردّاد هناك؟ هذا ما لا يحتمله القلم، بقلبها تحمل قلب فلسطين وقلب أمّة تودّ لو تأتي فردا فردا لتعانق هذا الرجل العظيم، هذا الذي تمثّل الصبر واليقين والايمان والحب والقدس والفلسطين في عينيه التي بقيت شامخة لامعة بالحب واليقين.  

أنّى لكاميرات هذا العصر أن تلتقط ما في القلوب وأن تخرج ما في الصدور، أنّى لها أن توجز بتلك اللحظة، لحظة عناق هذه الام بفلذة روحها، كيف تسترجع سنينها الطويلة المنهكة الموجوعة المتلوّعة بهذه اللحظة العظيمة؟  

أيها المخرج ما كان لك أن تنهي فيلمك على هذه الصورة الثقيلة القاتلة الساحقة، لقد قسوت علينا كثيرا لتصنع فيلما مثيرا.  

يا سادة لم يكن فيلما ولا صنع مخرج ولا مؤلف قصّة، هي مقادير المولى الرؤوف الرحيم الذي يجعل من هؤلاء شهداء خالدون، يقيمون الحجة على أمّة طال عليها أمد المذلة والمهانة ولم تعد فظائع بني صهيون تحرّك لها نخوة أو غضب.  

ستبقى يا رداد الشهيد الشاهد الحيّ ، غاب الجسد ولكن الروح منارة عالية في سماء الوطن..


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023