دروس تعبوية ومعنوية من الاشتباكات الإيرانية الإسرائيلية

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً: بين يدي الموضوع: 

لا شك أن العدو الإسرائيلي قد فاجأ القيادة الإيرانية فجر 13 06 2025، بضربة كان يعتقد معها أنه قادر على إخراج إيران؛ دولة ومؤسسات عن حالة التوازن المفضية إلى الدخول في وضع أزمة تتفاقم، قد تفضي إلى الإطاحة بالنظام. وهنا يحضر في المشهد مجموعة من الإسئلة حول سبب هذه المفاجأة، التي جاءت بعد مفاجأة العدو نفسه لـ"حزب الله " في 27 09 2024 ومشابهة لها، حيث كان مقتضى العقل والتدبير يقول: أن الإيرانيون قد استفادوا من تجربة الحزب، فلا يجب أن يقعوا فيما وقع فيه! ولفهم سياقات الأمور، لا بد من التطرق إلى مسألتين مهمتين؛ واحدة مرتبطة بأصل المفاجأة والذي هو أحد أصول الحرب التي يعرفها كل ناشئ في هذا العالم، والثانية، العقيدة العسكرية الإيرانية، والتي تغيب عن أذهان الكثيرين، كونها من أمور الاختصاص التي لا يبحث فيها وعنها سوى أهل (الكار) والمهتمون. 
في المسألة الأولى؛ مسألة المفاجأة؛ يخطئ البعض في فهمه للمفاجأة، حيث يعتقد أنها عبارة عن (تصبيحك) العدو أو (تبيته) دون أن يكون لديه أي علم أو مؤشر على فعلك هذا؛ يعني( كف على غفلة)، هذا الفهم يحمل شيء من الصحة، ولكنه بعيد عن الدقة، حيث أن المفاجأة هي: أن تضع عدوك في موقف لا يستيطع معه أن يقوم برد فعل، حتى لو كان يعلم بتحركك تجاهه، أو نيتك للتعرض عليه. وللاستدال على هذا الأمر؛  فقد علم العدو الإسرائيلي في حرب رمضان 1973 أن الجيشين المصري والسوري على وشك شن هجوم عليه، علم بذلك قبل ساعة الصفر بست ساعات، وكونه ــ العدو ــ كان في حينه يحتاج إلى ما لا يقل عن 48 ساعة لحشد وتعبة ونشر قواته، كانت المفاجأة، حيث (ضبط) العدو في موقف لا يستطيع أن يتصرف معه بشكل فاعل ومؤثر. وفي السياق ذاته، حتى تتحقق المفاجأة، وتؤتي ثمارها، لابد من توفر مجموعة من الشروط والمستتبعات، من أهما على سبيل الذكر لا العد ما يأتي: 

  1. لابد من احاطتها بكم هائل من إجراءات التمويه والتعمية والسرية. 
  2. لابد أن تُخرج مفاجأتك خصمك عن حالة توازنه لأطول فترة ممكنة، تمكنك من تحقيق أغلب أهدافك التي تريد تحقيقها، قبل أن يعود على حالة توازنه التي خرجها منها. 
  3. تفقد المفاجأة قيمتها، عندما يستوعب خصمك الموقف، ويمتص الضربة، ويعود إلى توازنة في أسرع وقت ممكن. 

أما فيما يخص المسألة الثانية المرتبطة بالعقيدة العسكرية الإيرانية، والتي يحار البعض في فهمها، ويصعب على البعض تفسير سلوك الإيرانيون إذا لم يكن يعرفها هي: أن العقيدة العسكرية الإيرانية؛ عقيدة دفاعية، بمعنى أن الدولة الإيرانية لم ولن ولا تبادر بالحرب إبتداءً، وإنما تبني قدراتها على أساس إمكانية امتصاص الضربة الأولى، واستيعاب أثرها، ثم بدء الرد عليها. طبعاً هذا موضوع تخصصي شائك، لا يطيقه فهمه وتفهمه إلّا صاحب اختصاص، عارفٌ بالأصول والضوابط والمحددات والتدابير: الشرعية، والسياسية، والطبوغرافية، والاقتصادية، والديموغرافية، و... ، التي تفرض أو تمنع دولة ما من تبني عقيدة عسكرية بعينها. وهنا نشير إشارة بسيطة إلى أن العقائد العسكرية إما أن تكون دفاعية، أو هجومة، ويشتق من هاتين العقيدتين عقائد أخرى فرعية. وهذا كما قلنا بحث تخصصي،  شائك، ومعقد، ولا يُبسط في مقالات، أو (بوستات).

ثانياً: الدروس والعبر: 

أما عن الدروس والعبر الممكن استخلاصهاـــ حتى الآن ـــ من هذه المواجهة بين عدو الأمة ـــ يهود ــ الذي يفسد الدين والدنيا، وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية فكثيرة، نأتي في هذه العجالة على الأهم منها، وهو على النحو الآتي: 

  1. أهمية البناء والعمل المؤسسي: فهذا بعد فضل الله ومنّه، هو ما يضمن استمرار الأعمال، ويحفظ المؤسسات، من الإندثار، ويساعد على امتصاص الضربة الأولى، ويحافظ على التوازن المطلوب لإدارة الموقف بأكفأ الصور، وأفضل الحالات. لقد احتاج " حزب الله " عشرة أيام ليملئ فراغات ما تضرر في بداية الحرب، ثم أدارة معركة على مدار 66 يوم بكفاءة عالية. أما إيران؛ فقد لزمها 18 ساعة ـــ من 0330 حتى 2030 ــــ لتملئ الفراغات، وتبدأ في رد على العدون، أيضاً بكفاءة عالية جداً. 
  2. معرفة الذات، ومكامن الضرر، ونقاط القوة والضعف: حيث لا يمكن وضع مسار لبناء القوات، ومراكمة القدرات، ما لم تكن هناك معرفة دقيقة بمكامن الضرر الذاتية، ونقاط القوة والضعف. وهنا لا بأس من الإشارة إلى أن مكامن الضرر هي أمور بنوية في الذات، لا يمكن تقويتها، والحل الوحيد معها، هو سترها عن أعين الأعداء والمتربصين، بعكس نقاط الضعف الممكن تقويتها، وتحويلها مع الإيام، وبناء على سلسلة من الإجراءات والتدابير إلى نقاط قوة .  
  3. معرفة العدو؛ مكامن ضرره، ونقاط ضعفه وقوته: فكيف تنهض لمواجهة عدو لا تعرف مكامن ضرره، ونقاط قوته وضعفه؟ ففي معرفة الأولى ــ مكامن الضرر ــ يمكن وضع إجراءات، وإمتلاك قدرات تجعل من هذه المكامن، مَقاتِل للعدو. وفي معرفة الثانية ــ الضعف والقوة ــ تتمكن من ضرب عدوك في نقاط ضعفه، وتجنب نقاط قوته، وهذا من أهم أصول الحرب غير المتكافئة. 
  4. تحضير الجبهة الداخلية؛ مادياً ومعنوياً: فهي التي ستواجه العدو، وهي التي ستتلقى ضرباته،وهي المكون الرئيسي في إدمة معركتك مادياً وبشرياً، وهي الحلقة الأضعف التي سيوجه العدو ضغطه عليها، ليحولها من نقوة قوة لك إلى نقطة ضعف تقتلك، لذلك بالقدر الذي توليها أهمية، وتخصص لها من قدرات وإمكانات، قبل الحرب؛ بالقدر الذي ستجدها صامدة، مواكبة، قادرة على تحمل ضغط العدو واعتداءاته. إن الأصل الحاكم في تحضير الجبهة الداخلية للمخاطر الخارجية، وجعلها مستعدة للمواكبة والتضحية هو: تعرفك عليها في الرخاء، لتعرفك في الشدة.   
  5. معرفة التهديد والمخاطر الناتجة عنه: هذه هي أهم نقطة في وضع ملامح، وعناوين مسار بناء القوات، ومراكمة القدرات والخبرات. كما أن معرفة التهديدات هي أهم أصل من أصول ترتيب الأولويات وتخصيص القدرات. 
  6. أهمية بناء السردية وحشد وتعبئة الدعم الداخلي والخارجي، الرسمي منه والشعبي: فالحرب تكسب إبتداء في النفوس، والصورة اليوم والخبر هما ما يجعل الحق معك أو عليك، والبنادق التي تطلق النار في الميدان، إن لم يواكبها إجراءات تُظّهر فعليها، وتبرر سلوكها، قد تجد نفسها في نهاية الحرب مطاردة، مطلوبة الرأس؛ داخلياً وخارجياً.  
  7. عدم إغفال المبادرة لضرب التهديد في مهده: حتى لو كانت عقيدة الدولة العسكرية دفاعية، فلا يجب أن تغض الطرف عن إمكانية مبادرتها بالعمل الاستباقي الذي يبطل فاعلية التهديد في مهده ويقضي عليه، وهنا ليس مقصوراً الفعل المبادر على الإجراء الخشن، بل يمكن أن يكون جزءاً من الإجراءات ذات طابع (ناعم)، عن طريق إظهار معرفتك بنوايا العدو، وما سوف يقبل عليه من إجراءات ضدك، فتعطل فعله، أو تؤخر إجراءه، فالوقت في مثل هذه الأزمات مطلوب لذاته. 
  8. إدارة الموقف بتوازن، وبفعل لا بردات فعل: إن أهم ما يرجوه العدو من نتائج مفاجأته هو أن يُخرج خصمه عن حالة التوازن والهدوء المطلوبة لإجراء عمليات التفكير المنظم اللازم لإدارة الأزمات، فلا يمكن أن تُدار أزمة بتفكير غير منظم أو عشوائي، وللخروج من اللاتنظيم والعشوائية؛ أنت بحاجة للهدوء وحفظ التوازن. 
  9. ترتيب الأولويات، وتخصيص القدرات: ففي حالات الأزمات والكوارث والنوازل، تكثر الطلبات، وتتعدد الأولويات، وليس هناك كائن سياسي أو إنساني مطلق القدرات، كامل الإمكانات، وعليه يجب أن يعاد ترتيب الأولويات عند الأزمات، لما لهذا الأمر من أهمية في تخصيص القدرات. 
  10. الاستفادة المُثلى من الطبيعة الطبوغرافية لمسرح العمليات: إن خلاصة الإجراءات العسكرية، في مختلف مستوياتها، الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكة يمكن اختصاره بقدرة الدولة أو القائد على الموائمة بين الأرض والسلاح والمقاتل لتنفيذ المهمة، في أي مستوى منها، وبأقصر الطرق، وأقل الأكلاف. وقديماً قيل:  قتلت أرضٌ جاهلها، وقتل أراضاً عالمُها. 
  11. عدم إغفال البعد الأمني المصاحب للمعارك العسكرية: نحن في الجيل الخامس من الحروب، التي لا تقتصر على ميادان العمليات، ومناطق المسؤوليات، بل تمتد حتى تصل إلى كل مفصل من مفاصل الحياة اليومية للناس. وقديماً كانت تُفتتح المعارك بضربة جوية أو برية لخطوط جبهة العدو على حافته الأمامية للقتال، ثم يبدأ الموقف في التطور، وتبدأ القوات في توسيع وضعيتها. أما الآن فإننا في الوقت الذي نشاهد فيه تساقط القذائف والصواريخ على الحافة الأمامية لمناطق القتال، نرى ونشاهد استثمار العدو لما بناه وما أدخله من أحصنة (طروادة) داخل حصوننا. إن الطابور الخامس ــ الإيجاب أو السلبي ــ الذي ينشئه العدو داخل صفوفنا؛ أخطر علينا من ألف قذيفة مدفع، أو صاروخ طائرة. ففي اللحظة التي يشعر فيها المقاتل في الصف الأول أن عقبته غير محمية، وأن العدو يهدد أهله وناسه الذين ما خرج إلا دفاعاً عنهم؛ في مثل هذه اللحظة؛ تنهار المعنويات، وتخور العزائم. 

هذه بعضٌ من الدروس والعبر المستقاة حتى الآن من الحرب الدائرة بين العدو الإسرائيلي، والجمهورية الإسلامية الإيرانية. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعملون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023