الإرادة والتماسك والمرونة وحروب المستقبل

 مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية 

ترجمة حضارات 

 بقلم: دانيال بايمن

الحروب لا تنطوي فقط على صدام للقوى، بل أيضًا على صدام للإرادات الوطنية. وقد شدّد المنظّر الكبير للحرب، كارل فون كلاوزفيتز، على أهمية العوامل "المعنوية" في الحرب، مثل إرادة الشعوب في القتال، ومستويات الدعم للقضية، والوحدة الوطنية. ويسعى الخصوم إلى تحطيم تماسك الولايات المتحدة وحلفائها وقدرتهم على الصمود من خلال وسائل متعددة. فروسيا تستخدم التضليل الإعلامي لزيادة الانقسام داخل المجتمعات الأمريكية والأوروبية، وقد دعمت أحزاب المعارضة اليمينية المتطرفة وحتى عصابات الدراجات النارية بهدف تأجيج العنف والاستقطاب. أما هجوم حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والهجمات الروسية المتنوعة على أوكرانيا، بما في ذلك الغزو الشامل عام 2022، فقد استهدفت كذلك كسر القدرة على الصمود من خلال قتل المدنيين وتهديدهم وفرض معاناة واسعة النطاق.

"تُعدّ المرونة المجتمعية عاملًا حاسمًا في قدرة الدول على مواجهة العدوان؛ فعندما تكون قوية، فإنها تعزز من قوة الردع. وفي النزاعات المستقبلية، من المرجّح أن يسعى المعتدون مثل الصين وروسيا إلى تقويض هذه المرونة إمّا كبديل عن الحرب أو كمقدمة لها".

يجادل هذا الفصل بأن المرونة المجتمعية تُعدّ عاملًا حاسمًا لتمكين الدول من الصمود في مواجهة العدوان؛ فعندما تكون هذه المرونة قوية، فإنها تعزز من قدرة الردع. وفي النزاعات المستقبلية، من المرجّح أن يسعى المعتدون، مثل الصين وروسيا، إلى تقويض هذه المرونة باعتبارها بديلًا للحرب أو تمهيدًا لها. لقد أثبتت كل من أوكرانيا وإسرائيل قدرتها على الصمود، من خلال الاعتماد على شعوبها وقطاعاتها المدنية لمواصلة خوض معارك طويلة ومرهقة. وفي المقابل، أظهر كل من روسيا وحركة حماس أيضًا قدرة على التحمل والصمود. كما كانت الحملات المعلوماتية أساسية بالنسبة لجميع هذه الأطراف؛ إذ نجح بعضها، ولا سيما أوكرانيا، وكذلك حماس، في تسويق روايته بفاعلية. أما عملية احتجاز الرهائن التي نفذتها حماس، فرغم أنها لم تؤدِّ إلى تقويض مرونة المجتمع الإسرائيلي بالكامل، إلا أنها أحدثت تصدعات كبيرة داخله.

ويبدأ هذا الفصل بتحديد مفهوم المرونة وشرح أهميته في كلٍّ من الحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، ثم يستخلص الدروس من هذين النزاعين، ويعرض بالتفصيل ما تحمله من دلالات بالنسبة لمستقبل الحروب.

ما هي القدرة على الصمود ولماذا تهم؟

من منظور الأمن القومي، تُعد الدولة صامدة إذا امتلكت الإرادة والقدرة معًا على مقاومة الضغوط الخارجية والتعافي منها، سواء كانت هذه الضغوط حملات تأثير أو غزوًا عسكريًا. عمليًا، تتمكن المجتمعات الصامدة من حماية المدنيين، وضمان استمرار الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والرعاية الصحية، والتصدي لمحاولات الإكراه، وبناء إرادة للمقاومة والقتال ضد أي غازٍ أجنبي.

لقد أظهرت أوكرانيا قدرتها على الصمود في فبراير/شباط 2022 حين واجهت غزوًا واسع النطاق، في ظل هجمات سيبرانية روسية مكثفة، وسيل من الدعاية، ومحاولات لاغتيال القيادة، ومساعٍ لتنصيب حكومات دمية، فضلًا عن تهديدات أخرى. ورغم ذلك، تطوع الأوكرانيون بأعداد كبيرة للقتال ضد روسيا، وحافظوا على تشغيل محطات الكهرباء والطاقة، ونفذوا عمليات اغتيال وتخريب في المناطق الأوكرانية التي احتلتها روسيا، مما صعّب على الأخيرة إدارة تلك المناطق واستخدامها كمنصات لعملياتها. وقد منح ذلك أوكرانيا وقتًا ثمينًا مكّن حلفاءها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من ضخ مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية لمساعدتها على الصمود لسنوات عدة في حرب استنزاف ضد خصم أكبر حجمًا وإمكانات.

كما أن الصمود يُعد عنصرًا حاسمًا في الحفاظ على القوات أثناء الصراع. فقد اتسم النزاع الأوكراني بالاستنزاف المستمر، حيث أعلن القادة الأوكرانيون عن فقدان أكثر من 45,000 جندي منذ عام 2022، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى. ومن المرجح أن يكون هذا الرقم أقل بكثير من الحقيقة، إذ يُحتمل أن العدد الحقيقي يزيد عن ضعف المعلن. كما تكبدت أوكرانيا أكثر من 10,000 وفاة بين المدنيين وأكثر من 30,000 إصابة. أما إسرائيل، فقد فقدت في يوم واحد – حوالي 1,200 شخص – أكثر من أي يوم آخر في تاريخها. وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واجهت حربًا على جبهات متعددة، معتمدة بشكل كبير على قوات الاحتياط رغم ما شكله ذلك من ضغوط اجتماعية وتكاليف اقتصادية باهظة.

ومع ذلك، فإن أعظم فوائد الصمود غالبًا ما تتحقق قبل وقوع الأزمات، إذ يشكل الصمود عنصرًا أساسيًا في الردع. فالدول التي تفتقر إلى الصمود قد تُعتبر أهدافًا سهلة للغزو، في حين أن الدول التي تتمتع بقدرة عالية على الصمود تجعل غزوها أكثر تكلفة وصعوبة. وكما يجادل بعض الباحثين الفنلنديين: "حتى أكبر دب لن يستطيع أن يبتلع قنفذًا."

دروس من أوكرانيا والشرق الأوسط

لقد سعى أعداء (إسرائيل )- إيران وحماس وحزب الله والحوثيون - وروسيا إلى تقويض صمود كلٍّ من المجتمعين الإسرائيلي والأوكراني على التوالي. فقد ركّز جزء كبير من الجهد الحربي الروسي، التقليدي وغير النظامي، بما في ذلك الهجمات السيبرانية والصاروخية على البنية التحتية للطاقة والمستشفيات، ومحاولات الاغتيال، والدعاية، على كسر إرادة السكان في المقاومة وتقليل الدعم لجهود كييف الحربية. وإضافة إلى ذلك، أنشأت موسكو حكومات صورية في بعض المناطق الأوكرانية التي احتلتها، كما حاولت بطرق أخرى تقويض الحكومة الشرعية هناك. وفي الوقت نفسه، سعت حركة حماس إلى تحطيم الروح المعنوية الإسرائيلية في لحظة كان البلد فيها منقسمًا سياسيًا بشدة، واعتقدت أن عمليات أخذ الرهائن على نطاق واسع ستجبر الدولة على الركوع. كما كان قادة حزب الله والحوثيين يأملون أن تدفع هجماتهم المتضامنة مع حماس (إسرائيل) إلى وقف عملياتها في غزة، لاعتقادهم أنها لن تستطيع تحمّل حرب طويلة ومرهقة.

كما حاولت روسيا كذلك استخدام أعمال التخريب والضغط الاقتصادي لإجبار حلفاء أوكرانيا الأوروبيين على سحب دعمهم، من خلال استهداف صمود مجتمعاتهم المدنية. وقد ركّزت الهجمات التخريبية الروسية أساسًا على البنى التحتية الحيوية مثل خطوط الأنابيب، وكابلات الألياف البصرية، وكابلات الكهرباء، بالإضافة إلى خطوط السكك الحديدية وقطاع الطيران، وخاصة الشركات المصنعة والمورّدة للأسلحة. ورغم أن مثل هذه الحوادث ليست جديدة، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 سرّع من وتيرة هذه الهجمات: إذ سُجلت 3 هجمات في عام 2022، و12 في عام 2023، و34 في عام 2024. وتشكل هذه الأنماط من الهجمات، التي ترافقها تدخلات سياسية وحملات تضليل إعلامي، جزءًا من حملة حرب هجينة.

لمواجهة الهجمات التي تهدف إلى تقويض المعنويات الداخلية، اعتمدت كلٌّ من( إسرائيل) وأوكرانيا على خزانات عميقة من الصمود. فقد كان لدى الجيش الأوكراني 196,000 جندي قبل الهجمات؛ وبحلول مطلع عام 2025، ارتفع العدد إلى ما يقارب 900,000 جندي، بمن فيهم عناصر الاحتياط. وفي إسرائيل، يُطبَّع مفهوم الأمن القومي من خلال الخدمة العسكرية الإلزامية في سن الثامنة عشرة، ليبقى الأفراد بعد ذلك في صفوف الاحتياط حتى سن الأربعين مع استمرار التدريب. وقد استدعت هجمات 7 أكتوبر أكبر عملية تعبئة في إسرائيل منذ حرب يوم الغفران عام 1973، حيث تطوّع حتى من هم خارج الفئة العمرية للاحتياط للانضمام إلى الخدمة العسكرية. وكثير من جنود الاحتياط قدّموا أنفسهم قبل أي استدعاء رسمي، متحمسين للتطوع حين تتعرض بلادهم للهجوم. فبعد 7 أكتوبر مباشرة، استدعت إسرائيل 360,000 جندي احتياط. وبحلول يناير 2024، كان ما بين 200,000 و250,000 منهم لا يزالون في الخدمة. وحتى نوفمبر 2024، خدم 34% من جنود الاحتياط أكثر من 150 يومًا، و54% خدموا أكثر من 100 يوم.

كما اعتمدت (إسرائيل) وأوكرانيا بشكل كبير على قطاعاتها المدنية، وهو عنصر حيوي للصمود. ففي عام 2022، أنتجت أوكرانيا سبعة نماذج من الطائرات المسيّرة. وبحلول عام 2024، ارتفع العدد إلى 67 نموذجًا مع مشاركة نحو 200 شركة محلية في الإنتاج. وفي خطاب ألقاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أكتوبر 2024، أعلن أن أوكرانيا قادرة على إنتاج 4 ملايين طائرة مسيّرة سنويًا. وبفضل هذه الطائرات، شنّت أوكرانيا ضربات على منشآت الطاقة الروسية وبنى تحتية أخرى في عمق روسيا، واستخدمتها أيضًا في مواجهة القوات الروسية. أما في( إسرائيل)، فقد عملت وزارة الدفاع بعد 7 أكتوبر مع شركات التكنولوجيا الناشئة لنشر قدرات جديدة، حيث جاء 50% من تقنيات مكافحة الطائرات المسيّرة التي يستخدمها الجيش من هذه الشركات. وبين بداية الحرب ونهاية عام 2024، منحت( إسرائيل) عقودًا لـ 101 شركة ناشئة أو صغيرة لدعم المجهود الحربي.

غير أن القطاعات المدنية قد تُرهق بسهولة، خصوصًا في الحروب الطويلة. ففي( إسرائيل)، استُدعي ما بين 10% و15% من القوى العاملة في قطاع التكنولوجيا إلى صفوف الاحتياط. ويُعد هذا القطاع حيويًا لاقتصاد (إسرائيل)، إذ يمثل 16% من الوظائف، ونصف صادرات البلاد، و20% من الناتج الاقتصادي. وعلى نحو مشابه، اعتمدت أوكرانيا كثيرًا على دعم القطاع الخاص في صد الهجمات السيبرانية الروسية. فبعد الغزو، نبّهت شركة مايكروسوفت السلطات الأوكرانية إلى برمجيات خبيثة صُممت لاستهداف الوزارات الحكومية والمؤسسات المالية، وعملت مع المسؤولين الأوكرانيين على مواجهتها. كما أتاحت مايكروسوفت للحكومة الأوكرانية الاستفادة مجانًا من خدماتها السحابية.

لقد أفاد استعداد (إسرائيل) ما قبل الحرب في تعزيز صمودها. فالمباني السكنية والصناعية الإسرائيلية يُشترط أن تضم ملاجئ دفاعية. وغالبًا ما يُخصَّص تمويل حكومي لبناء هذه الملاجئ في المباني القديمة لمعالجة مشكلة 28% من الإسرائيليين الذين لا تتوافر لهم أماكن قريبة. إضافة إلى ذلك، توفّر أنظمة الإنذار المبكر للسكان إشعارًا للجوء إلى الملاجئ. ونتيجة لذلك، ظلّ السكان محميين إلى حدّ كبير ولم يُصَبوا بالذعر في مواجهة الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية والحوثية.

كما لعبت الحملات الإعلامية دورًا مهمًا في النزاعين، وكانت أوكرانيا أكثر نجاحًا من( إسرائيل) في هذا المجال. فعلى الرغم من أن ؟(إسرائيل )شددت على عدوانية حماس وأسرها للرهائن وسعت لتبرير حربها باعتبارها دفاعًا عن النفس، فإن معظم دول العالم رفضت شرعية عملياتها الجارية في غزة، كما أصدرَت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وقادة إسرائيليين آخرين بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وقد تراجعت صورة( إسرائيل) عالميًا بنسبة 18.5% بين سبتمبر وديسمبر 2023. وفي الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة المعارضين للعملية العسكرية الإسرائيلية من 45% في نوفمبر 2023 إلى 55% في مارس 2024، حيث أفاد 33% من الشباب الأمريكيين بأنهم يتعاطفون كليًا أو جزئيًا مع الشعب الفلسطيني. كما أن نحو ثلث الشباب الأمريكيين يرون أن دوافع حماس للقتال ضد (إسرائيل) مشروعة، وهو ما يكشف التحديات التي تواجهها الحملات الإعلامية الإسرائيلية.

في المقابل، لم تواجه أوكرانيا تحديات إعلامية مماثلة، إذ تحظى بدعم دول الناتو ويُنظر على نطاق واسع إلى روسيا باعتبارها المعتدي، خصوصًا بعد أن رصدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية الغزو مسبقًا وقامت بتفنيد الدعاية الروسية قبل وقوعها. وقد روّجت الحكومة الأوكرانية لقضيتها بفاعلية، إلى حدّ كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مركزة على صمود المواطنين الأوكرانيين ومقدِّمة الشكر للداعمين الدوليين. كما لجأت أوكرانيا إلى الأمم المتحدة عقب اندلاع الحرب، حيث عقدت الجمعية العامة جلسة استثنائية طارئة في فبراير 2022 وصوّتت بأغلبية ساحقة على قرار يطالب روسيا بوقف غزوها.

ومع ذلك، حققت روسيا انتصارات دعائية عديدة، وهو ما يُعد لافتًا بالنظر إلى الطابع العدواني الصريح لسلوكها الوحشي. فقد استغلت السرديات الروسية في إفريقيا التاريخ الاستعماري الأوروبي، حيث نُشر أكثر من 178,000 تغريدة مرتبطة بروسيا خلال الأسبوعين الأولين من الغزو، اتهمت الأوكرانيين والأوروبيين بالعنصرية. ووفقًا لمركز الدراسات الاستراتيجية الإفريقية، سعت روسيا أيضًا إلى تعزيز دعمها العام للقارة من خلال رعاية 80 حملة موثقة في أكثر من 22 دولة. وقد نجحت هذه الدعاية غالبًا، حيث أبدى 84% من سكان مالي آراء إيجابية تجاه روسيا. كما استخدمت روسيا الدعاية داخل أوروبا؛ فألمانيا، ثاني أكبر مزوّد للأسلحة لأوكرانيا، أفادت بزيادة في حملات التضليل الروسية الهادفة إلى تقليص الدعم لأوكرانيا.

أما مسألة الرهائن التي احتجزتها حماس فقد شكّلت تحديًا لصمود إسرائيل. إذ انقسم الموقف الإسرائيلي لشهور بين مواصلة القتال ضد حماس والسعي إلى وقف إطلاق النار ضمن صفقة تبادل. ففي يناير 2024، دعم مجلس الحرب إلى حدّ كبير خيار وقف إطلاق النار، لكن مشرعين من حزب الليكود الحاكم أصرّوا على استمرار العمليات العسكرية. وفي 2 يونيو 2024، هدد وزيران من اليمين المتطرف بالاستقالة إذا وافق نتنياهو على مقترح الهدنة، وهي خطوة كان من شأنها إسقاط الائتلاف الحاكم. وقد لجأت إسرائيل أحيانًا إلى المفاوضات، لكنها في أوقات أخرى سلكت نهجًا عسكريًا تصعيديًا جعل من التوصل إلى وقف إطلاق نار وتسوية تفاوضية أمرًا أقل احتمالًا.

يبقى قياس الصمود في الدول السلطوية أمرًا صعبًا. فاستطلاعات الرأي، والنقد الإعلامي، والخلافات السياسية، وغيرها من الوسائل المعتادة لقياس الإرادة الشعبية والدعم للحرب، تكون غالبًا غير دقيقة أو محدودة في الدول السلطوية، وتزداد صعوبة دقة هذه المقاييس عند الحديث عن الجماعات المسلحة دون الدولة. بعد شهر من اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، صرّح المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي بأن هناك مؤشرات على أن الروح المعنوية باتت مشكلة متفاقمة داخل القوات الروسية التي تقاتل في أوكرانيا. وأفادت دراسة لجامعة كامبريدج عام 2023 بأن مستويات الرضا المالي والمعيشي في روسيا قد تكون عند أدنى مستوياتها خلال عقد، في حين ارتفعت مستويات المعارضة عبر الإنترنت استجابة لإخفاقات إدارة الحرب. ولا تزال روسيا تواجه نقصًا في الجنود، وبالرغم من أن عدد سكانها أكبر بكثير من أوكرانيا، اضطرت إلى تجنيد أعداد كبيرة من السجناء، وتقديم مكافآت مالية ضخمة للمجندين، والاستعانة بقوات من كوريا الشمالية لتعزيز صفوفها. ومع ذلك، وبرغم الخسائر الهائلة في ميدان المعركة والهجمات الأوكرانية على البنى التحتية الروسية للطاقة والعسكرية، فإن روسيا لم تنسحب من القتال.

أما قياس الروح المعنوية لحماس فهو أكثر صعوبة. ومن المنطقي الاستنتاج أن الدمار الذي لحق بغزة، وخسارة عدد كبير من المقاتلين، وتصفيات واسعة لقيادات الحركة قد أضعفت المعنويات، غير أن التنظيم لم ينهَر. فحتى بعد وقف إطلاق النار، تظل حماس القوة الفلسطينية الأبرز ولا يبدو أنها تواجه اضطرابًا شعبيًا واسعًا.

الخلاصة

في كلٍّ من أوكرانيا وإسرائيل، لا تقتصر قصة الصمود على مجرد القدرة على التحمل في ميدان القتال، بل تشمل كذلك تعبئة المجتمع – عسكريًا، ومدنيًا، وتكنولوجيًا، ونفسيًا – لمقاومة العدوان والحفاظ على التماسك الوطني. وتؤكد تجاربهما على الأهمية الحيوية لإعداد المجتمعات لمواجهة النزاعات طويلة الأمد، بما في ذلك حماية البنية التحتية، وتعزيز الجاهزية المدنية، والحفاظ على مصداقية السرديات الوطنية في الفضاء الإعلامي العالمي. إن الصمود بهذا المعنى الواسع يؤدي دورًا مزدوجًا دفاعيًا وردعيًا: فهو يمكّن الدول من امتصاص الصدمات دون انهيار، ويوجه رسالة للخصوم بأن الاحتلال أو الإكراه لن يحقق مكاسب سهلة.

"المرونة تؤدي وظائف دفاعية وردعية في آن معًا؛ فهي تساعد الدول على امتصاص الصدمات دون الانهيار، كما تبعث برسالة إلى الخصوم بأن الاحتلال أو الإكراه لن يحقق مكاسب سهلة".

إن تعبئة السكان تُعد ضرورة لمواجهة الجهود الخارجية الرامية إلى تقويض القدرة على الصمود. فقد كانت كلٌّ من الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة طويلة الأمد، وألزمت كلًّا من أوكرانيا وإسرائيل بتعبئة قوات الاحتياط وأجزاء من السكان المدنيين خارج المؤسسة العسكرية. ومن الصعب التنبؤ بمدة نزاع محتمل بين الولايات المتحدة والصين أو أي حرب كبرى أخرى، غير أنّه من المرجح أن يتطلب مثل هذا النزاع جهدًا متواصلًا، يكون النجاح فيه معتمدًا جزئيًا على أيٍّ من الطرفين سيكون أقدر على تعبئة سكانه على المدى الطويل.

تستطيع الأنظمة السلطوية أن تستخدم القمع والدعاية لكبح المعارضة. وكغيرها من الأنظمة، يمكنها أيضًا الاستناد إلى القومية والمشاعر المناهضة للأجانب من أجل البقاء في السلطة. ومع ذلك، فإن قدرتها على الصمود يمكن تقويضها، وغالبًا ما تكون أكثر هشاشة مما تبدو عليه. وفي الواقع، كما أظهرت سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر 2024، يمكن للأنظمة السلطوية التي تبدو راسخة أن تنهار بسرعة. وبذلك، يمكن أن تتركز العمليات الهجومية في مجال المعلومات ضد هذه الأنظمة على السياسات غير الشعبية، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو الأزمات الاقتصادية، أو الفساد، أو الانقسامات السياسية والمجتمعية الداخلية.

قد تشهد النزاعات المستقبلية عمليات واسعة النطاق من أخذ الرهائن، وفرض الاستيعاب القسري على السكان الأسرى، وغير ذلك من الممارسات غير القانونية، لكنها مع ذلك حقيقية وواقعية، وتستهدف المدنيين بما قد يؤدي إلى انقسام الرأي العام. والتصدي لذلك يتطلب تطوير استراتيجية إعلامية موجهة للجماهير المحلية والخارجية، وإيجاد قنوات اتصال مع المناطق المحتلة داخل الدولة، وضمان أن تكون قوات العمليات الخاصة مهيأة جيدًا لمهام إنقاذ الرهائن.

إن ضمان التماسك والقدرة على الصمود يعتمد، جزئيًا، على حماية البنية التحتية المدنية والأصول الحيوية للأمن القومي التي تُدار من قبل شركات القطاع الخاص، والتي غالبًا لا تركز على قضايا الأمن القومي أو تتعامل بانتظام مع الحكومة في زمن السلم. وسيجري جزء كبير من هذه الأنشطة في الفضاء السيبراني، مما يستلزم تعاونًا وثيقًا مع طيف واسع من شركات التكنولوجيا الخاصة.

الانقسامات المجتمعية تضعف القدرة على الصمود، بينما يسعى الخصوم عبر دعايتهم لاستغلال هذه الانقسامات. وهذه الانقسامات يصعب تجاوزها، إذ تنبع غالبًا من مشكلات اجتماعية أعمق مرتبطة بالتمييز أو التغيرات الاجتماعية. ويمكن للزعماء السياسيين أن يزيدوا من حدة هذه الانقسامات أو يخففوا منها عبر خطابهم وسياساتهم، وعليهم أن يدركوا أن المبالغة في تغذية هذه الانقسامات تمنح الخصوم فرصًا سانحة.

وعليه، يتعين على المخططين الاستراتيجيين النظر إلى صلابة المجتمع وقدرته على الصمود بوصفها عنصرًا متكاملًا في منظومة الأمن القومي، لا مجرد اعتبار ثانوي. فالحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط توضح أن معركة الإرادة والتماسك ليست مجرد ملحق للنزاع العسكري، بل هي عنصر محوري في تحديد النصر أو الهزيمة.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025