بقلم/ الأسير المحرر ربحي بشارات
إسرائيل تمشي بخطى متسارعة نحو حافة الانهيار الداخلي، وما كان يُقال قبل سنوات بوصفه خيالًا أو دعايةً أو تمنياتِ خصومٍ سياسيين، أصبح اليوم تحليلاً واقعيًا صادرًا عن كبار الأمنيين والجنرالات والمفكرين الصهاينة أنفسهم، الحديث عن حرب أهلية في إسرائيل لم يعد مجرد رصدٍ انفعالي لحالة الاحتقان، بل قراءة للواقع القائم والمتصاعد من تناقضات بنيوية تضرب المجتمع الإسرائيلي منذ تأسيسه.
منذ ولادتها غير الطبيعية على جغرافيا النكبة، حملت إسرائيل في تكوينها بذور الانقسام: المستوطنون الأوائل القادمون من أوروبا الذين أرادوا كيانًا علمانيًا ليبراليًا يشبه المجتمعات التي هربوا منها، في مقابل التيار الديني الصهيوني الذي كان ينظر إلى فلسطين بوصفها أرض الميعاد تنفذ فيها نبوءات توراتية لا تعرف حدودًا أخلاقية أو إنسانية أو سياسية.
ومع مرور العقود، لم تستطع إسرائيل توحيد هذين المشروعين في عقل سياسي واحد، فحاولت توزيع الأدوار: العلمانيون يديرون الدولة والاقتصاد والجيش، والمتدينون يوفرون الغطاء الديني والشرعية اللاهوتية.
لكن هذا الاتفاق الهش بدأ يتآكل تدريجيًا مع صعود اليمين الديني-القومي الذي لم يعد يقبل بدور ثانوي، اليوم نرى إسرائيل تحت سيطرة حكومة دينية متطرفة، بقيادة نتنياهو وتحالفاته من الصهيونية الدينية والحريديم، الذين يريدون تغيير شكل الدولة جذريًا، من كيان يدّعي الديمقراطية إلى مشروع ثيوقراطي استعماري مطلق لا يعترف بقانون ولا قضاء ولا حساب.
هذا الصراع ليس بين أحزاب فقط، بل بين هويتين متنافرتين: هوية “دولة لكل اليهود” وفق مفهوم ليبرالي أوروبي، وهوية “دولة الشريعة اليهودية” وفق مفهوم توراتي قومي.
والاحتلال لعب دورًا مركزيًا في تأجيل هذا الانفجار؛ فالصراع الخارجي ضد الفلسطينيين والعرب كان دائمًا مادة لصناعة التماسك الداخلي، لكن عندما تتراجع قدرات الاحتلال على فرض الردع، ويبدأ الأمن بالتآكل كما يحصل بعد طوفان الأقصى، تنكشف التناقضات التي كانت مغطاة بصوت المدافع.
اليوم يعيش المجتمع الإسرائيلي صدمة لم يعرفها من قبل، ليس فقط لأن المقاومة استطاعت الوصول إلى قلب المستوطنات المحصنة وخطف الجنود والمستوطنين، بل لأن صورة الجيش الذي لا يُهزم قد تحطمت، فقدت إسرائيل أكذوبتها الكبرى، وظهرت هشاشتها أمام نفسها أولًا.
هذه الهشاشة أنتجت حالة غضب غير مسبوق، ليس غضبًا على العدو، بل غضبًا داخليًا، لأن كل طرف يتهم الآخر بأنه سبب الهزيمة: العلماني يتهم المتدين بأنه يتهرب من الخدمة العسكرية ويتمتع بالإعفاءات بينما يرسَل أولاده للموت، والمتدين يتهم العلماني بأنه باع القيم اليهودية وجعل الجيش يركض وراء السياسة بدل التوراة.
في قلب هذه الفوضى يقف بنيامين نتنياهو، الرجل الذي حوَّل الدولة إلى رهينة مصيره الشخصي، نتنياهو يدرك أنه إن خرج من الحكم سيُحاكم بتهم الفساد، لذا فإنه مستعد لإحراق الدولة كلها من أجل البقاء، مشروعه لتغيير القضاء الذي أشعل الشوارع لأشهر قبل الحرب ليس سوى الجزء العلني من الخطة، أما الجزء الأخطر فهو بناء ميليشيات مسلحة تابعة لوزير الأمن القومي بن غفير، وأنصار المستوطنات، ولجان الحراسة، وفرق “الحرس القومي”، وكلها بذور حرب أهلية حقيقية.
في المقابل، المؤسسة العسكرية والاستخباراتية ترى أن نتنياهو يدمّر الدولة من الداخل، وقد ظهرت شرخات غير مسبوقة بين القيادة السياسية والجيش والشاباك والموساد، وللمرة الأولى يخرج رؤساء الأجهزة علنًا باتهامات لنتنياهو بالكذب وتعريض إسرائيل للخطر، وعندما يصل الصراع إلى حد أن الجيش لا يثق بالحكومة، وأن الحكومة تتهم الجيش بالخيانة، فنحن أمام لحظة تمرد كامنة قد تنفجر في أي لحظة.
العامل الآخر الذي يسرّع اقتراب الحرب الأهلية هو الاقتصاد. إسرائيل كانت تتباهى بأنها “وادي السيليكون” الشرق أوسطي، لكن هروب الاستثمارات وتراجع الثقة العالمية وغياب الأمن الداخلي وهجرة العقول بدأت تخلق فئة تشعر بأن هذا الكيان لم يعد مكانًا آمنًا لمستقبلها، وهذا يشعل الخوف الذي يتحول سريعًا إلى عنف.
وهناك أيضًا التصنيف الإثني الذي لا يُناقش كثيرًا: تقسيم السفارديم والأشكناز والمهاجرين الروس والإثيوبيين، وكل جماعة تحمل شعورًا بالاضطهاد أو التفوق، السفارديم لطالما شعروا بأن الدولة اختطفتها النخبة الأشكنازية، والأشكناز يرون أن السفارديم صعدوا بالجهل والشعبوية الدينية، والروس ينظرون للجميع نظرة استعلاء قومية، والإثيوبيون يعتبرون أنفسهم مواطنين درجة ثالثة.
هذه الفوارق لم تُحل، بل تُركت تتخمّر حتى صارت مادة انفجار اجتماعي قريب. الحرب في غزة لم توحّد المجتمع الإسرائيلي كما كان متوقعًا، بل زادت الشرخ، فهناك من يرى ضرورة سحق غزة بالكامل حتى لو أدى ذلك إلى حرب إقليمية، وهناك من يرى أن استمرار الحرب جنون يهدد وجود إسرائيل كله.
ومن جانب آخر المستوطنون يعيشون حالة هستيريا لأنهم يشعرون لأول مرة أن الحديد والنار لا تحميهم، وأنهم باتوا أهدافًا مباشرة للمقاومة، وهذا القلق يدفعهم للمطالبة بالمزيد من السلاح وبحرية إطلاق النار، ما يعني إقامة دولة عصابات موازية داخل الدولة.
أما الحريديم الذين يرفضون التجنيد إجمالًا، فهم يمثلون قنبلة متفجرة: وستزداد نسبتهم السكانية خلال عقدين لتصل إلى ثلث السكان تقريبًا، ما يعني أن دولة تعتمد على جيشها واحتلالها ستجد نفسها بلا جنود.
إذا أضفنا إلى هذا كله أن إسرائيل كيانٌ يقوم على أسطورة التفوق العسكري والأمني، فإذا زالت هذه الأسطورة زال التماسك، وهذا ما يحدث بالفعل: سلسلة عمليات في الضفة والداخل، صواريخ من الشمال، تهديدات دائمة من المقاومة، كل ذلك يخلق يقينًا لدى الإسرائيليين أن دولتهم فقدت القدرة على حماية نفسها، وأنهم يجب أن يحموا أنفسهم بأيديهم، وهنا تبدأ الميليشيات، وتنهار الدولة. الانقلاب على السلطة تم تنفيذه بنسبة كبيرة بالفعل داخل مؤسسات الدولة.
نتنياهو يقود عملية إحلال تدريجي للقضاء والإعلام وبقية مفاصل الحكم لصالح تياره، لا أحد في الليكود يجرؤ على تحديه ليس لأنه القائد الأفضل، بل لأنهم يعلمون أن سقوطه يعني سقوط الجميع معه. هذا الولاء القائم على الخوف وليس على الفكرة يجعل الحزب نفسه جزءًا من الأزمة لا جزءًا من الحل، وكلما طال أمد الحرب في غزة، وكلما ازدادت خسائر الجبهة الشمالية مع حزب الله، وكلما تراجع الاقتصاد وتعطلت الحياة واستمرت الاحتجاجات والعصيان داخل الجيش، سنقترب أكثر من اليوم الذي يمسك فيه الإسرائيلي بسلاحه ضد أخيه الإسرائيلي.
وعندما تبدأ الشرارة، لن يكون هناك من يطفئها، لأن الصراع ليس سياسيًا عابرًا بل صراع هوية ووجود، لا يمكن لدولة أن تجمع بين العلمانية والتوراة والاحتلال والديمقراطية والعرقانية في قالب واحد ثم تتوقع البقاء مستقرة.
إسرائيل اليوم تشبه برجًا بني على الرمال فوق فوهة بركان، ما يمنع الانفجار ليس تماسكًا داخليًا، بل خوف الأطراف من لحظة الحقيقة، لكن تلك اللحظة تقترب بسرعة. الحرب الأهلية القادمة ليست احتمالًا بعيدًا، بل نتيجة طبيعية لانتهاء صلاحية الكذب الذي بُني عليه هذا الكيان.
سيقف الإسرائيليون أمام مرآة الحقيقة ويكتشفون أن العدو الأكبر الذي يهدد وجودهم ليس الفلسطيني ولا العربي ولا الإيراني، بل انقسامهم الداخلي وتناقض مشروعهم وفشل هويتهم. لقد بدأت النهاية من داخلهم، وستُكتب آخر فصول الدولة التي قامت على الدم والتهجير، بأيدي أبنائها الذين سيقاتل بعضهم بعضًا عندما يسقط قناع “الجيش الذي لا يقهر” ويتحوّل من جيش دولة إلى ميليشيا بين ميليشيات.
إسرائيل الآن في العد التنازلي، والخريطة التي يقرأها كل من له عينان واضحة: الفوضى قادمة إلى الشوارع، والسلاح سينطق أكثر من السياسة، والدم اليهودي سيُراق بأيدي يهودية، وما ظنّه العالم قوةً صلبة لم يكن سوى هشاشة مموّهة بمجازر على أرضنا، نهاية الطغيان تبدأ من داخله، وإسرائيل ليست استثناءً من سنن التاريخ.