الشيخ رائد صلاح
ليست الصليبية الغربية وحدها المسؤولة، تلك التي كانت تتصدرها بريطانيا العظمى، التي لُقّبت ذات يوم بـ”الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، والتي أصدرت وعد بلفور، ثم وفرت الأجواء المناسبة من خلال ما عُرف بـ”الانتداب البريطاني” لطلائع الحركة الصهيونية، كي تواصل الهجرة من أوروبا إلى فلسطين، وكي تواصل بناء مؤسساتها السيادية التي تؤهلها لتأسيس دولة تحت مظلة الانتداب البريطاني.
حتى إذا ما أتمت الحركة الصهيونية بناء هذه المؤسسات السيادية وأصبحت جاهزة للاعتماد على نفسها وإدارة شؤون حياتها تحت مسمى دولة، أعلنت بريطانيا عن إلغاء انتدابها، ثم انسحابها من فلسطين، وهكذا أتاحت الفرصة للحركة الصهيونية كي تتحول من طلائع مهاجرين إلى دولة على حساب فلسطين.
ومع ذلك، ليست الصليبية الغربية وحدها التي تتحمل وزر نكبة فلسطين، وإن كانت تعتبر أن قيام دولة على حساب فلسطين وتوظيف الحركة الصهيونية لأداء هذه المهمة، هو مشروع صليبي غربي قبل أن يكون مشروعًا صهيونيًا، وإن تواصل دور الإسناد لهذه الدولة، ما قبل قيام الحركة الصهيونية بقيادة هرتسل، ثم تصدرت دور الإسناد هذا أمريكا حتى الآن إلى جانب بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
ومع ذلك، فليست الصليبية الغربية وحدها التي تتحمل وزر نكبة فلسطين، وليست الحركة الصهيونية وحدها التي تتحمل وزر نكبة فلسطين، ومع التأكيد أنه كان لها حصة الأسد في هذه النكبة، مع أنها قامت بدورها الوظيفي بامتياز في إيقاع نكبة فلسطين، ومع التأكيد أنها نجحت أن تقدم نفسها كمحل إجماع صليبي غربي رغم الانقسامات العميقة في جسد الصليبية الغربية.
فهي الصليبية الغربية التي تغلغلت فيها الانقسامات حتى النخاع بين كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس، وبين نظم رأسمالية وشيوعية، وبين حلف وارسو وحلف الأطلسي، ثم “الحرب الباردة” بين شرقها وغربها، ثم الصراع على مستقبل الصليبية الغربية بين أمريكا وروسيا وألمانيا وفرنسا.
ومع ذلك، نجحت الحركة الصهيونية أن تقدّم نفسها كمحل إجماع يجمع بين كل متفرقات الصليبية الغربية رغم كثرة دوافع هذه الانقسامات وعمقها في جسد الصليبية الغربية، ومشهد مأساة غزة أوضح مثال على ذلك. ومع ذلك، فإن الحركة الصهيونية لا تتحمل وحدها وزر نكبة فلسطين، فمن هم الذين يشاطرون الصليبية الغربية والحركة الصهيونية وزر نكبة فلسطين؟
1. إن الذين استوردوا عن سبق إصرار مفاهيم “القومية العمياء” من الصليبية الغربية، وراحوا يروجون لها في العالم العربي من المحيط إلى الخليج ومن الشام إلى اليمن، هم من يتحمل نصيبًا معتبرًا من وزر نكبة فلسطين.
فهم الذين استوردوا هذه القومية العمياء من الصليبية الغربية، واتخذوا من هذه القومية العمياء “طاقية خفاء” لإعلان الحرب على الخلافة الإسلامية، وشرعنة التآمر مع بريطانيا وفرنسا بخاصة وسائر الصليبية الغربية بعامة للتعجيل بإلغاء الخلافة الإسلامية.
وهم الذين يوم أن قاموا بهذا الدور العميل، فقد باتوا يؤسسون لشرخ عميق في جسد الأمة الإسلامية الواحدة، وهم الذين ساهموا بالإطاحة بمفهوم وحدة الأمة الإسلامية الواحدة، التي تعني وحدة قضاياها، ووحدة مصيرها، ووحدة مواقفها، ووحدة حاضرها، ووحدة مستقبلها، ووحدة سيادتها.
وكأني بهؤلاء العملاء الفكريين قد طمعوا في تحويل جسد الأمة الإسلامية الواحدة من جسد “إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” إلى جسد مقطع إلى إرب، إذا اشتكى منه عضو لم يشعر به سائر الجسد وغفل عن شكواه. وقد قام بهذا الدور العميل القائم على العمالة الفكرية، شخصيات منفوخة في مظهرها، لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، فكان منهم عرب وغير عرب، وكان منهم مسلمون مغرر بهم وغير مسلمين يتربصون بالخلافة الإسلامية الدوائر.
وقد تصدر هذا الدور العميل قائمة سوداء ضمت أمثال ساطع الحصري، ونجيب عازوري، وجورج أنطونيوس، وأنطون سعادة، وقسطنطين زريق، ومحمد علي باشا، والشريف حسين، ثم سائر أتباعهم.
2. وسلفًا أقول: ليس شرطًا أن يكون العميل عميلًا إذا كشف أسرار الأمة الإسلامية والعالم العربي لأعدائهم، بل إن الذي قام بدور استيراد فكرة “القومية العمياء” من الصليبية الغربية إلى الأمة الإسلامية والعالم العربي، وافتعل الصراع سلفًا بين الوحدة الإسلامية والعروبة، وادعى أنه لا يمكن الجمع بين الخلافة الإسلامية والعالم العربي، وراح يدعو إلى إحداث شرخ عميق بين الخلافة العثمانية والعالم العربي، بل راح يغذي ظاهرة “التمرد العربي” على الخلافة العثمانية، ولم يتردد أن يمد هذا التمرد العربي المشبوه بالمال والسلاح، وجاهر بإعلان سعيه لتقويض الخلافة الإسلامية بكل ثمن، حتى لو وضع يده بيد الصليبية الغربية، وأباح لنفسه طعن الخلافة الإسلامية العثمانية من الخلف، وفرك يديه فرحًا عندما اشتدت مظاهر الصراع التركي العربي، وكأنه بات في حساباته لا يمكن الجمع بينهما تحت مظلة الخلافة الإسلامية، وكأن القطيعة وقعت بينهما،
وبات طرف منهما ينتصر لـ”الطورانية التركية” لا للوحدة الإسلامية، وبات الطرف الآخر منهما ينتصر لـ”القومية العربية المستوردة” لا للوحدة الإسلامية. إن الذي قام بهذا الدور، بغض النظر عن اسمه، هو عميل مهّد الطريق لوقوع نكبة فلسطين، ولا يقل عمالة عن عمالة أبي رغال وابن سبأ والعلقمي وسائر ذريتهم التي كلما مات منها قرن طلع غيره.
3. إن الكتابة عن هذه القومية العمياء ليست مجرد نبش للماضي فقط بهدف النبش فقط، وقد يقول قائل: “هذا ليس وقته”، بل هو وقته الآن، لأن النبش عن هذا الماضي القريب هو أساس لا بد منه لفهم حاضرنا الآن بأبعاده الإسلامية العروبية الفلسطينية، وهو أساس لا بد منه لفهم أسرار تواصل نكبة فلسطين حتى الآن، وأسرار مأساة غزة والضفة الغربية، وأسرار مأساة القدس والمسجد الأقصى المباركين، وأسرار “اتفاقية أبراهام”، وأسرار اندفاع قافلة التطبيع، وأسرار الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي وعلى حكومته المنتخبة، ثم الانقلاب على حركة النهضة في تونس، والزج برئيسها راشد الغنوشي في السجن، وأسرار إعلان حظر جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وأسرار من يطلعون علينا الآن بقناع “القومية العمياء” من جديد، ومجاهرتهم المكشوفة بمحاربة كل بداية للمشروع الإسلامي، ولو كانت في القمر.
لكل ذلك، ها أنا ذا أكتب، وقد يتعجب البعض من صراحتي في مقالات قادمة، والتي لن تخرج عن خطاب “وجادلهم بالتي هي أحسن” بإذن الله تعالى. لكل ذلك أكتب، ولكل ذلك لا بد من نبش ما يجب نبشه من الماضي القريب الذي صنعته أيدٍ عميلة فكريًا، رضيت لنفسها أن تكون أذنابًا في مسيرة الصليبية الغربية وفي مسيرة الحركة الصهيونية، ومن ثم تحملت نصيبًا معتبرًا من وزر نكبة فلسطين.
4. فهي التي كانت تغذي حركات الانفصال العربية عن الخلافة الإسلامية، في الوقت الذي كان يقول فيه السلطان عبد الحميد الثاني: “إن فلسطين ليست ملك يميني، بل هي وقف للأمة الإسلامية، ولأن يعمل المبضع في تقطيع جسدي أهون عليّ من أن أفرط بشبر من فلسطين وهي التي أخاف أن يسألني الله تعالى عنها إن فرطت بها”.
وهي هذه الشخصيات العميلة التي ثبتت عمالتها وعمالة دورها للصليبية الغربية، وهي التي رضيت لنفسها أن تتلقى الدعم المالي من الصليبية الغربية لإصدار صحف لها أو إقامة كليات محكومة بفكرها العميل المستورد الداعي إلى “القومية العمياء”، أو إسناد جمعيات بدأت تنتشر كالفطر في العالم العربي تقول بقولها، أو إسناد حركات انفصالية عربية بالسلاح. وقد قامت بهذا الدور العميل في الوقت الذي طرد فيه السلطان عبد الحميد الثاني ثيودور هرتسل من مجلسه، يوم أن طلب منه هرتسل مجرد الإذن لهجرة طلائع الحركة الصهيونية من أوروبا إلى فلسطين، مقابل أن تسدد الحركة الصهيونية كل ديون الخلافة العثمانية.
5. وهي التي حققت أطماع الصليبية الغربية، التي كانت تتناقل بين أيديها كتابًا بعنوان “مائة طريقة لإسقاط الخلافة الإسلامية” قبيل الإعلان عن إسقاط الخلافة الإسلامية. ثم سقطت الخلافة الإسلامية، وكان لهذه الأيدي العميلة فكريًا نصيب معتبر من وزر إسقاطها، الذي كان مقدمة لا بد منها في حسابات الصليبية الغربية والحركة الصهيونية لإيقاع نكبة فلسطين.
6. وهي الأيدي العميلة فكريًا التي حققت أحلام لورانس، ملك العرب، القائد الحقيقي لـ”الثورة العربية الكبرى”، الذي عبر في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة” عن حلمه بإسقاط الخلافة الإسلامية، مما يعني في حساباته تقسيم الأمة الإسلامية إلى شذر مذر، ثم تقسيم العالم العربي إلى شذر مذر، ومما يعني الاستفراد بفلسطين، وهذا ما وقع، وتم سلخ فلسطين عن بعدها الإسلامي، ثم عن بعدها العربي. وقالت القومية العمياء يوم أن تسلطت على مصير الكثير من الشعوب العربية: “فلسطين للفلسطينيين”، وهكذا بدأ الشعب الفلسطيني يحمل نكبته على ظهره لوحده حتى الآن.
7. وهي هذه الأيدي العميلة فكريًا التي ساهمت سيرورة جهودها بإسقاط الخلافة الإسلامية، ثم سقوط العالم العربي غنيمة لأطماع الصليبية الغربية، وكانت “معاهدة سايكس-بيكو” مثالًا على ذلك، ثم بروز أنظمة إقطاعية ملكية ربطت مصيرها بمدى تبعيتها للصليبية الغربية، ثم بروز أنظمة انقلابية قومية عمياء ربطت مصيرها بمدى محاربتها للمشروع الإسلامي بهدف محاربة عودة الخلافة الإسلامية، وكذلك ربطت مصيرها بواحد من معسكرات الصليبية الغربية.
وهكذا دخلت أنظمة الحاضر الإسلامي والعربي إلى مرحلة “الحكم الجبري” الراهن على اختلاف مسميات هذه الأنظمة، وما كان ولا يزال يميز هذه الأنظمة حتى الآن هو التخلي عن القضية الفلسطينية، حيث باتت هذه الأنظمة، إلا من رحم الله منها، ما بين متآمر على هذه القضية، أو راض بموقف الصامت المتفرج، أو راض في أحسن الأحوال بموقف الوسيط بين القضية الفلسطينية من جهة وبين الصليبية الغربية والحركة الصهيونية من جهة أخرى.
وما يميز أنظمة الحكم الجبري كذلك هو قمع شعوبها، والمثال على ذلك قمع “الربيع العربي”، وإعلان الحرب على المشروع الإسلامي، وما وقع في مصر وتونس والأردن مثال على ذلك، وخرق كل الثوابت لضمان بقائها بكل ثمن، و”اتفاقية أبراهام” مثال على ذلك.
ولا يخلو هذا الحاضر الكارثي من بوارق الأمل نحو التغيير، مع التأكيد أن هذا الحاضر الكارثي ليس من فراغ، بل لهذه الأيدي العميلة فكريًا نصيب معتبر في وزر هذا الحاضر الكارثي بعامة، وفي وزر نكبة فلسطين بخاصة.