استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) يوم الخميس الماضي لإسقاط مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي كان سيطالب بوقف فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار في غزة ويطالب إسرائيل برفع جميع القيود المفروضة على إيصال المساعدات إلى القطاع الفلسطيني. وهذه هي المرة السادسة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن بشأن الحرب المستمرة منذ قرابة العامين على غزة (رويترز، 2025).
يتألف مجلس الأمن من خمسة عشر عضوًا، خمسة منهم أعضاء دائمون وهم: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. هذه الدول دائمة العضوية هي القوى العظمى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية. يمكن للأعضاء الدائمين استخدام حق النقض ضد أي قرار بما في ذلك القرارات المتعلقة بقبول أعضاء جدد في الأمم المتحدة أو المرشحين لمنصب الأمين العام. يُنتخب الأعضاء العشرة المتبقين على أساسٍ إقليمي لمدة عامين. تتناوب رئاسة الهيئة شهريًا على أعضائها.
فهل يعقل أن يكون مصير العالم بين شفاه خمس دول؟
يثير التساؤل حول معقولية أن يبقى مصير العالم رهين قرار خمس دول فقط إشكالية أساسية في بنية النظام الدولي. وفي هذا الإطار، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبارته الشهيرة ( العالم أكبر من خمسة (بالتركي (Dünya beşten büyüktür)، التي وردت لأول مرة عام 2013 وانتقلت منذ عام 2014 إلى شعار ثابت في خطاباته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتتحول لاحقًا إلى أداة سياسية ودبلوماسية تعكس انتقادًا واضحًا لاحتكار الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لسلطة القرار العالمي وما يترتب على ذلك من تقويض فعالية الأمم المتحدة (غوككويون وتورونلو، 2024).
والمقصود بالخمسة هم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا)، الذين يمتلكون حق النقض (الفيتو). يرى أردوغان أن احتكار هؤلاء الخمسة لقرار السلم والأمن الدوليين غير عادل، لأن مصير العالم لا ينبغي أن يُترك بيد خمس دول فقط. يُستخدم هذا الشعار كرمز لمطالبة تركيا ودول أخرى بتغيير بنية مجلس الأمن وتوسيع العضوية الدائمة أو إلغاء حق الفيتو.
هذه الانتهاكات تفضح عجز النظام الدولي وتعيد التساؤل حول فاعلية الأجهزة الأممية، خصوصًا مجلس الأمن، إزدواجية المعايير الدولية والقضية الفلسطينية تكشفان سيطرة الدول الكبرى على الأمم المتحدة وتوظيفها لمصالحها الخاصة ويظهر النفاق الغربي في رفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان مع التغطية على جرائم إسرائيل. وهذا يظهر بشكل واضح الخلل البنيوي في مجلس الأمن، وهذا الفشل يعود إلى تركيبة أعضائه الدائمين الخمسة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، مع حرمان عشرات الدول من التمثيل (خاصة أفريقيا)، كما يضعف عدالة المجلس واستخدام "حق النقض – الفيتو"، مما يعكس تسلط الدول الكبرى ويشلّ عمل هذا المجلس.
ومنذ عام 1948 وحتى 2023، أصدر مجلس الأمن 55 قرارًا بشأن فلسطين، لكن دون تنفيذ فعلي، وأصدرت الجمعية العامة نحو 29 قرارًا منذ 1947، ما يعكس التباين بين إصدار القرارات وعجز التنفيذ (فلحة، 2025).
إن استخدام الولايات المتحدة حق النقض للمرة السادسة ضد مشروع قرار يطالب بوقف الحرب في غزة يكشف بوضوح انحيازها الكامل لإسرائيل، ويجعلها الطرف الرئيس في تعطيل أي جهد دولي يرمي إلى إنهاء هذه الإبادة. هذا الموقف لا يقتصر على حسابات سياسية تقليدية، بل يتجاوزها ليؤكد أن مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومرجعيات حقوق الإنسان تتراجع أمام أولويات حماية إسرائيل. ومن ثم فإن الفيتو الأمريكي لا يضعف صورة الولايات المتحدة أمام الرأي العام العالمي فحسب، بل يفضح التناقض بين خطابها المعلن حول الحرية والعدالة وممارساتها الفعلية في المحافل الدولية. إن تكرار استخدام هذا الحق يعكس عمق التواطؤ في إدارة النزاع، ويشير إلى أن القضية لم تعد مجرد خلاف سياسي، بل تحولت إلى صراع على القيم والمبادئ بما يمس مصداقية النظام الدولي ككل.
فالولايات المتحدة ليست "وسيطًا محايدًا" وإنما طرفًا أصيلاً في النزاع، إذ إن مواقفها العملية تجعلها أقرب إلى الشريك السياسي والعسكري لإسرائيل منها إلى طرف يسعى إلى تحقيق تسوية عادلة، وممارساتها العملية تكشف انحيازًا بنيويًا لصالح إسرائيل، يتجلى في استخدامها المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن، ودعمها العسكري والاقتصادي الواسع، إضافة إلى تبنيها مواقف تفاوضية منسجمة مع المطالب الإسرائيلية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لا تؤدي دور الوسيط المحايد بقدر ما تمثل طرفًا فاعلًا في النزاع، الأمر الذي يقوض شرعية دورها كراعٍ لعملية السلام
ورغم ادعائها المتواصل بأنها دولة الديمقراطية والحرية وحامية حقوق الإنسان، فإن موقفها من الحرب الجارية يكشف تناقضًا صارخًا؛ إذ لا يمكن لحقوق الإنسان أن تُجزّأ أو تُقاس على أساس الدين أو العرق أو اللون. إن دعمها للحرب يجعلها في موقع المساند للجرائم ومنتهكًا لحرية وكرامة الإنسان الفلسطيني. ومن المعروف أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة دعمت الاحتلال على الدوام، غير أن الإدارة الحالية تبدو الأكثر صراحة وعداءً في مواقفها، إذ ترفض أي مبادرة جدية لتحقيق سلام عادل يقوم على إنهاء الاحتلال. هذا التناقض يثير تساؤلات حول مدى أهلية الولايات المتحدة لاستضافة المنظمة الدولية، فوجودها في دولة منحازة للاحتلال وراعية للنزاعات يفقدها شرط الحياد.
فقد تحولت غزة إلى أنقاض، وتتعرض الضفة الغربية لانتهاكات غير مسبوقة، فيما تشهد القدس اعتداءات متواصلة. والواقع أن المسؤولية لا تقع على عاتق من يمارس القتل فحسب، بل تشمل أيضًا من يدعم هذه السياسات أو يلوذ بالصمت تجاهها، ليصبح شريكًا مباشرًا في المأساة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
ومن المهم التذكير بأن قواعد القانون الدولي صيغت في الأساس على يد القوى المنتصرة، فهل كان متوقعًا أن يتحول من مارس دور الجلاد إلى قاضٍ عادل؟ إن الأمر لا يتعلق بسذاجة فردية بقدر ما هو شكل من أشكال التضليل الجماعي، الذي يجعلنا يجعلنا نمد أعناقنا كل مرة لذات العصا التي تضربنا. والواقع أن الولايات المتحدة ليست وسيط كما تدّعي، بل هي طرف مباشر في حرب الإبادة. ومن هنا، فإن التحرر الحقيقي يبدأ بكسر هذا الوهم قبل كسر أي حصار مادي مفروض.
وهذا يؤكد أن القضية الفلسطينية تكشف أزمة النظام الدولي، خاصة فشل مجلس الأمن في فرض العدالة بسبب احتكار القوى الكبرى، مما يستدعي إصلاحًا جذريًا لبنيته وصلاحياته.